الأحد، 29 سبتمبر 2019

بر | (3)

تدوينات رمضان 1440 هـ
**

(61)
ثرثار
قال: اعذروني..
لقد ثرثرتُ كثيرا، ويبدو أنكم مشغولون.
قلت له: أحب هذي الثرثرة!

عرض الرجل في كلامه معلومات عن كتاب حَقَّقَه، وذكر في جلسته غير كتاب واحد. كتاب في التاريخ وآخر في الفقه وثالث في التراجم، وكتب في فنون لا أذكرها. وذكر رحلات قام بها بحثا واهتماما بصناعة الكتاب، وأبدى ملاحظات الإنسان العارف على مؤسسات ثقافية تُعنى بالمخطوطات، وذكر علماء ألفوا ونُسَّاخا نسخوا، وانتقد بوعي وأدب بعضَ ما وقع فيه بعضُ المؤلفين من زلّات العلم والنفس، وأصَّلَ معلومات يتناقلها الناس وفنَّد بعضها، وذكر مقولات بنصِّها عثر عليها في بواطن الكتب، وأشار إلى مكتبات دخلها وعمل في بعض ما احتوته من مخطوطات. وعرض لي ولصاحبي ما تبيَّنه وهو يبحث عن معلومة وجد طرفا منها في كتاب.

وأبان -في المجمل- عن هِمَّتِه مذ كان طالبا في الجامعة، أيامَ كانت المصادر على غير ما هي عليه الآن من التوفر وسهولة الوصول إليها والحصول عليها..

أفادنا الرجل بهذا كله في ثلث الساعة. كان قد خرج ليستريح قليلا من إعداد ركن مكتبته في معرض الكتاب، أو لينتظر أحدا في الرواق، فإذا به يفاجأ بي وبصاحبي..

وكنت أحسب أنني ضيفته بكوب القهوة الذي طلبته له حين جاء، فإذا به يضيفني بعلمه ومعرفته، وتلك لعمري ضيافة تفوق في كرمها الضيافةَ بمأكول الطعام ومشروبه..
قلت له: تعال وثرثر دائما..

انصرف عنا وهو يفترُّ عن ابتسامة صافية. وقد رأيته بعيد هذا بقليل، وهو يصول ويجول بين أركان المعرض، يحدث الناس عبر خاصية البث المباشر في (فيسبوك) عن جديد معرض الكتب، مُنَفِّسا عما ينطوي عليه من علم ومعرفة، في نطاقٍ لا يسمعه فيه اثنان فحسب، بل الدنيا كلها!

كلُّ سبيلٍ إلى العلم والمعرفة فهو خير، جاء من الكلام أو من الصمت. وليس يعيب الكلام والصمت إلا أن يخرجان بالإنسان إلى صراط غير مستقيم.


(62)
سلاح العيون
في محاضرة لأحد الأساتذة بجامعة نزوى؛ عرفتُ نوعا من أخلاق الناس.
كان الأستاذ يعالج موضوعات مادته باقتدار ملحوظ، وكان لطيف الحضور بين طلابه. في كل مرة يأتي فيها هذا الأستاذ إلى المحاضرة؛ كان يدخل على طلابه منفرج الأسارير، نشيطا في روحه وبدنه..
لكأنما هي المحاضرة الوحيدة المقررة عليه، ولكنَّ سائله عن برنامجه التدريسي سيفاجأ حين يقول له:
- لا، لديَّ قبلها محاضرات كذا وكذا، ولديَّ بعدها محاضرات كذا كذا!!

تلك المحاضرة؛ كانت تغوص في كومة من المحاضرات أمثالها، وكان -على أكثر ظني فيه- سيجيب جوابه ذاك، وثغره يفترُّ عن ابتسامته الصافية، التي يعبر بها عن سعادةٍ من نوع ما، كأنما كان يجد في محاضراته فردوسا مفقودا..

أتراه شيء افتقده في بلادٍ لا تتكلم العربية وقد أنفق فيها أكثر من عقدين من عمره، أم هو إتقان في العمل وإخلاص في العلم، أم هو شيء يجده في مجموعة الطلبة هذه دون غيرها.. لست أدري!..

لقد كان هذا الأستاذ آية في التهذيب البالغ.
كان يشرح فكرة ما، وكان عادلا في نظراته وخطواته في قاعة الدرس؛ فإذا وقف قَسَّمَ ناظريه بين طلابه بالقسطاس المستقيم، وإذا تحرك اقترب من مجموعات الطلبة المبعثرة في الكراسي بالتساوي تقريبا..
في هذه الأثناء؛ أخرجتُ هاتفي -بلا انتباه مني- لأبعث برسالة مهمة على الواتساب أو أرد عليها، فرآني..

لم يكن هذا الموقف مما يَسُرُّ الأستاذ، لا شك، ولكن الحرج الذي سيتركه أيُّ قول غاضب أو معاتب منه عليَّ أنا الطالب الجديد في حلقات الدرس؛ أشدَّ عليه وأقسى مما فعلت..

ربما قدّر الأستاذ هكذا،
ولكنه لم يشأ -أيضا- أن يترك الموقف بدون ردة فعل منه..

لقد عرفتُ هذا، حين رأيت أن زكاة الأستاذ وصدقته من الخطوات والنظرات؛ تتقسم بين أقراني إلاي، وأن شيئا ما يحارب ابتسامة الأستاذ كلما التفت بوجهه إلى مجموعة الطلبة القريبة مني..
لقد تحاشى النظر إليَّ فيما بقي من المحاضرة كلها تقريبا. لم يقل شيئا، ولكن فعله هذا كان يقول الكثير..

هنالك انتبهت، وعرفت خطيئتي في العلم والمعلم، وهنالك تعلمت أن في الأخلاق مدارس، وأن الصمت أبلغ من الكلام أحيانا كثيرة، وأن في العين سلاحا بقدر كل ميدان..


(63)
أهلكتني الشمس
- ماذا يمكن أن تفعل سيارة أجرة صغيرة؟
ربما سأل نفسه هذا السؤال مهموما، وهو يمضي إلى تحويل سيارته لتكون سيارة أجرة.
كان هذا هو الحل السريع المتاح أمامه حينئذ، وكان يعلم أن في عمله هذا إضافة مرهقة من عملٍ وبُعْدٍ عن أسرته الصغيرة.

وقد صدق حدسه فيها مرات عديدة؛ فكم من مرةٍ رجع إلى البيت بتعب الجسد وخسارة الوقود!

وبالرغم من هذا؛ فقد خاب ظنه فيها أيضا مرات عديدة، فقد أنقذته سيارته الصغيرة هذه غير مرة. لقد عادت عليه الساعتان أو الثلاث من العمل اليومي في أوقات فراغه؛ بالعشرة والعشرين من الريالات، وأصبح دخله الشهري من سيارته هذه حوالي الثلاثمائة ريال شهريا. مبلغ يفي بحاجاته التي يعجز عنها راتبه الحكومي الضعيف الذي يتهالك منتصف الشهر أو قبل نهايته بأيام عدة.

ها هو الآن يتحسس محفظته الخالية من جديد. ما زالت تفصله عن موعد الراتب أيام عدة، ولم يبق له مما كسبه من عمل السيارة شيء، وفي بيته عيون صغيرة تتطلع إليه كلما عاد من عمله.
لا بد أن يبذل قصارى جهده ليرجع بشيء لعياله!

في السيارة وقود كاف، لكنه إن عاد خالي الوفاض هذه المرة؛ فهذا يعني أن خسارته -كما في كل مرة لا يوفق فيها- ستكون مضاعفة.

الشمس شديدة الوطأة في (مطرح). اتجه إلى السوق في ذلك النهار، وقدَّر أن الذين يَفِدون إلى السوق ممن لا يملكون سيارات خاصة بهم سيحتاجون سريعا لسيارة مُكَيَّفة تُقلهم.

اتجه إلى (مطرح)، وقال من أعماق قلبه (يا رب)!

وفي (مطرح) انتظر هذا الرجل الذي لم يعرف فيه أصحابه صفة الصبر.. انتظر طويلا: خارج السيارة يتابع المارة أملا في أن يرى من يبحث عن سيارة أجرة، وداخل السيارة جاعلا عينيه على مراياها الأمامية والجانبية..
وفي الحالين؛ كانت يد المسكين على محفظته الخالية، وكانت مخيلته لا يرتسم فيها إلا مشهد واحد: كائن صغير يهش إليه كلما دخل البيت، ويقول: (باباه.. جبت لي شيء)؟

- أما لهذا الانتظار من آخر؟
قال لنفسه.
- بلى..
نطقت بها جوارحه كلها، حين رأى قادما يقصده..

عجوز يبدو عليها الإرهاق، ولم يدر أيبكي على حالها أم حاله..
- ليس لدي يا ولدي غير ريال ونصف. ارحمني، لقد أهلكتني الشمس!

رق قلبه، ولم يدر ما يقول وهو يشاهد الطريق الطويلة تبتلع وقود سيارته. ظهرت إشارة حاجة السيارة للوقود. ماذا يمكن أن يفعل الريال ونصفه؟ وإن أوصلته سيارته للبيت بعد هذا المشوار غير المتوقع؛ فما عسى أن يقول لعياله..

أوصل العجوز إلى مكانها، ونزلت عنه وهي تتمتم بكلمات الشكر، وتدعو له. شكرها، وكادت دمعة تفر من عينيه.

وفي الطريق وهو يبتعد عن مكانها رويدا رويدا؛ لم يجد فرصة للتفكير في حظه السيئ؛ فما إن أنزل العجوز المسكينة حتى كان فوج يتبعه فوج، تمتلئ بهم السيارة كلما وقف في مكان..

يقول وهو يحكي حكايته: لقد عدت ذلك اليوم بأكثر مما تمنيته حين خرجت من البيت!

الله كريم، الله رحيم، الله سميع بصير؛ فأحسنوا الظن بالله..


(64)
M أم W
حضرنا مرة برنامجا تدريبيا، جمعنا المدرب فيه على لوحة موضوعة في الأرض، مرسوم عليها شكل ما، وقسمنا إلى أربع مجموعات. في المكان الذي وقفنا فيه، بدا لنا الشكل المرسوم على هيئة حرف (E)، وحين انتقلنا للجهة المقابلة تماما بدا لنا على هيئة الرقم (3)، ثم بدا لنا على هيئة حرف (W) حين انتقلنا لجهة أخرى، وأخيرا بدا لنا على هيئة حرف (M) في الجهة المقابلة لها تماما.

كان الرجل الحكيم يريد أن يخرج كل منا بفكرة مفادها أن لكل شخص مبرارته المنطقية فيما يتبناه من آراء وقناعات، وأننا لو انتقلنا للزاوية التي يتفاعل فيها مع موضوع ما؛ فلربما كانت لنا الآراء والقناعات نفسها، وأن في الأمر سعة.
إن كونك محقا في رأيك لا يعني بالضرورة أن من يخالفك الرأي مخطئ. قد تكونان مصيبان معا، كما قد تكون مخطئان معا إذا كنتما تقفان في جهة لا تمنحكما رؤية واضحة ودقيقة.

الحياة أوسع من أن تضيق بآراء مختلفة، ورحمة الله أكبر من أن تحصر في باب أو طريق واحد.


(65)
معجم الأخطاء
سمع أخا له يلقي كلمة في يوم ما. كانت كلمة جميلة، ولكنه أشفق عليه من أخطاء وقع فيها. فمن يحسن القراءة والكتابة لا يحسن به أن يقع في أخطاء مثل هذه، وإنه ربما قضى حياته كلها ظانا أن هذا هو الصواب، وربما نطق بأخطائه هذه في وسط يرى فيه موضع اقتداء، فكيف يكون حال مقلديه، وكيف حاله لو خرج له من يحفظ الصحيح فيما أخطأ فيه فأحرجه..

كان يدير هذه الأفكار في رأسه، وهو ينوي الحديث إلى صاحبه، ولكنه فكر في الرجوع لبعض المعجمات حتى يكون كلامه موثقا.

حين رجع للمعجم؛ أشفق على نفسه!

لقد كان المعجم يقول كما قال صاحبه، فحمد الله على أن تأنى قبل أن يقف من أخيه موقف المدقق المصحح..

إن الإنسان يؤتى العلم أحيانا من حيث يحسب أنها أخطاء عند أناس آخرين. ومهما ظن أنه علم فإن فيمن حوله وما حوله معلمين يملكون جديدا لم يطلع عليه بعد. وكان حقا عليه دائما وأبدا أن يسترجع قول الله في كتابه (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).


(66)
يوم المعلم
كان أبي كثيرا ما يعلل محبته الخاصة واحترامه العالي لأخيه الأكبر؛ بأنه تعلم عليه قراءة القرآن الكريم في صغره. كان يقول: "إن له فضلا كبيرا علي". وكنت أجد في كلامه هذا تعبيرا عن الشعور بالامتنان، أو تعبيرا عن عظم بضاعة المعلم وقيمتها الثمينة.
ورغم مرور الأيام، وما أتاحته الظروف لأبي من الانضمام للمدراس النظامية حتى الصف السادس، وما تحصل عليه من قراءاته وحده إبان شبابه؛ فإن أبي –حفظه الله- ما يزال يستشهد بكلام عمي الكبير في كثير من الأمور ذات الصلة بمسائل الفقه، حتى لكأنه قد جعله مرجعه الأول في هذا الشأن أو في العلم عموما، وكثيرا ما يردد في مجلسه بيننا عبارات من مثل: "سمعت يوسف"، و"قال يوسف"، و"أخبرني يوسف"، وغيرها، على نحو أشبه بما يرد في مؤلفات العلماء –لا سيما القدامى منهم- حين يستشهدون بكلام العلماء غيرهم في سبيل تأكيد المعلومة أو تعزيز مصداقيتها أو إضفاء شرعية ما عليها.
في كل مرة يحل فيها يوم المعلم أود أن أحيي هذين المعلميْن: عمي العزيز (يوسف) لما تفضل به من إحسان على أبي، وأبي العزيز لما علمني إياه من قدر المعلم والوفاء لكل من أحسن إليَّ بجميل؛ بذكره وشكره وحُسْنِ رده!


(67)
أنام ملء جفوني
- (لعلك تشقى)..
وكان يرد عليهم: (إني أرى ما لا ترون)!

وطَّن نفسه على أن يكون متفائلا في كل شأن من شؤون حياته، وآمن بأنه سيكون سعيدا مهما عصفت من حوله العواصف، وأن قدره أن يكون مبتسما حتى في أشد لحظاته صعوبة وقسوة، وأنه سينتهي في كل مكان يذهب إليه إلى سعادة وسرور..

حين قرر تغيير تخصصه الدراسي؛ تناوله بعض محبيه، فقالوا له: لا تفعل فلعلك تشقى. ولكنه مضى إلى تخصصه الجديد، فوجد السكينة والطمأنينة منذ يومه الأول، واجتمع شمله فيها بعد أن كان متفرقا من قبل، وأحس أنه في مكانه الطبيعي الذي كان ينبغي أن يكون فيه منذ يومه الأول في الجامعة. وكان من حظه الحسن أن كانت أول محاضرة يحضرها في كليته الجديدة مع عالم فذ في فَنِّه، ثم لقي من بعده علماء أجلاء، وأعلاما كانت لهم في الدولة منازل مرموقة فيما بعد. وفي حفل التخرج كان أحد أوائل كليته مرشحا ليكون معيدا فيها.

وحين قرر الزواج من بعيد؛ تناوله بعض محبيه، فقالوا له: لا تفعل فلعلك تشقى. ولكنه مضى إلى حيث استقرت قناعته، فوجد في حياته ما كان يتطلع إليه، من المودة والسكن. كتبت له زوجه يوما: (إني أحمد الله على نعمة هي أنت)، وكتب إليها ذات يوم: (أحبك حين تجمعنا الصلاة والدعاء. هنالك تضيع المسافة بيننا، ونتجاوز الأشكال الظاهرة إلى خفي المعاني)!.. وكان له منها الذرية التي دعا الله لكل واحد منهم مذ يومه الأول أن يكون خيراً زكاةً وأقرب رُحما، فكانوا زينة حياته وخزينتها الكبرى، ولم يشقَ بهم على رغم ما يرتكبه الأطفال من شقاوات، وكانوا مظنة السكينة دائما على رغم ما يحيلون به هدوء الآباء إلى نقيضه، ولم يزل يسأل الله أن يكونوا بررة صالحين..

وحين قرر الانتقال إلى وظيفة جديدة، تناوله بعض محبيه، فقالوا له: لا تفعل فلعلك تشقى. ولكنه مضى تاركا وظيفته المريحة، غير عابئ بما حذروه منه، فوجد في موقعه الجديد من لطف زملائه وتقدير مسؤوليه أكثر مما كان يجد، ووجد في نفسه نشاطا لأشياء كثيرة كان قد قصَّر عنها فيما مضى، وأملا قويا فيما هو أهل له، ولم يزل يرى أن في (الحركة بركة) مؤمنا بقول محمد بن بشير الخارجي:
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا

لقد آمن -بارك الله فيه- بأن الله عند ظنه الحسن، وتفاءل بالخير أينما حَلَّ فوجده، وكان يرى لنفسه من النجاح ما لا يراه له الناس من الفشل، يعيش لحظته مستفرغا فيها قواه النفسية السعيدة كلها، ويتأمل الدنيا من حوله بشعور عارم بالوفرة، وإن لسان حاله في كل معترك جديد يقول كما قال المتنبي:
أنام ملء جفوني عن شواردها، ويسهر الخلق جَرَّاها ويختصم


(68)
طالع الأول
كان الواجب المنزلي على جميع تلاميذ الصف أن يكتب كل واحد منهم اسمه عددا من المرات. كان ذلك في الصف الأول الابتدائي، وكان هو التلميذ الذي يخطئ (قليلا) في كتابة اسمه. اطلع أبوه -المتعلم حتى الصف السادس الابتدائي- على دفتر الواجب، وتبين له الخطأ الذي أشار له الأستاذ في كتابة الاسم. قال أبوه لأمه، وهو يهم بالخروج من البيت لبعض شأنه: أخبريه، وهو يعيد كتابة الواجب؛ أن يضع للسين ثلاث أسنان بدلا من اثنتين. حرصت أمه على إبلاغه ملاحظة أبيه، وربما كررتها عليه -غير مرة- لحظةَ إقباله على كتابة الواجب.
حدث هذا، رغم أنها لا تعرف -في ذلك الوقت- رسم (السين) و لا أخواتها، وربما لا تعرف الصلة التي أنشأتها المدرسة بين اسمه وهذا الرسم الذي يتعين عليه إتقانه!

كانت تجلس إلى جانبه، تقلب الكتب الجديدة التي تسلمها من المدرسة. ما الذي كان يغريها بفعل كهذا؟ هل هي صورة من صور حنان الأم تجاه صغيرها الذي يبدو أنه يواجه صعوبة ما وأنه يحتاج إلى مساعدة؟ أم هو التفاعل مع جديد لم يحدث من قبل، فهذا الصغير بِكرها وهو أول أولادها الداخلين إلى المدرسة؟ أم تراها الرغبة في اكتشاف عالم آخر -غير عالمها اليومي الروتيني- تتقصى معالمه في رسومات وصُوَرٍ مبثوثة في الكتاب؟ أم أنها كانت تربي الصغير ليكبر محبا للعلم وما يتعلق به؟ أم كان استشرافا مبكرا لما سيتحقق لها بعد نحو 20 سنة تقريبا حين تفتح فرص لمحو الأمية!..

كل هذا وارد ومحتمل، ولكن اليقين أن الولد استطاع -ومعه أبوه وأمه- أن ينجح، وأن يقبل ذات يوم على أبويه -اللذين علماه ما لم يكن يعلم- جذلانَ فرحا، لا تكاد الأرض تلامس خطاه، يقول بلهجته الدارجة: "أوماه.. أنا طالع الأول"!


(69)
أن تلقى أخاك بوجه طلق
مما أذكره إبَّان دراستي في أحد المراكز الصيفية؛ أن شخصا متعلما يبدو عليه الوقار، كان يأتي إلى المركز في بعض الأيام، وبينما كنا نبتسم أثناء السلام عليه كان يبدو كاللوح لا حياة فيه.
يَدٌ تمتد بشكل آلي، ووجهٌ جَافٌّ متخشب. لقد تكرر ذلك كثيرا في أيام متفرقات متباعدات. وقد تساءلت بيني وبين نفسي تارة، وبين أترابي تارة أخرى؛ إن كان قد بدر مني شيء مما قد يراه الرجل خارجا عن حدود الأدب واللياقة، فلم أجد فيما تفكرت فيه أو فيما سمعته من أترابي ما يشير إلى شيء مما أظنه، بل لقد شاطروني الملاحظة نفسها في أنهم يجدون منه ما أجد..
كنتُ في حداثة سني..
ولولا أن لَطف الله بي، لكنت قد تركت ذاك المكان الطيب وأهله، وكرهت كل من هم على مظهر هذا الرجل!

ثم مرت الأيام فوجدتني غريبا في مكان ما، محتاجا إلى أن أتكلم إلى أحد حتى تهدأ بلابل النفس وتستقر؛ وإذا بشخص لم أكن أعرفه من قبل يتلقاني بابتسامة صافية عذبة، فلا تسل كيف آنستني ابتسامته من الوحشة، وكيف ردت إليَّ روحي وجمعت عليَّ شملي. ثم زاد عليها بأن دعاني إلى منزله فأكرمني غاية الإكرام.
ولولا أن يقال إني لم أنصفه فيما أكرمني به؛ لقلت إن ابتسامته تلك كانت ضيافتَه الأكبر، فلقد نسيت الآن ما كان على المائدة، ولكنني لم أنس ابتسامته ولطفه ذاك، ولا أظن أنني سأنساه ما بقيت حيّاً!

ثم مَرَّتْ أيامٌ غيرها، فوجدتني محتاجا إلى مساعدة عاجلة في مكان لم يُلْتفتْ فيه إليّ. كان كل واحد مشغولا بأحد، وكنت أتلفت ذات اليمين وذات الشمال لعلي أجد فراغا لدى موظف هنا أو آخر هناك، ولكن المكان الخدمي كان ممتلئا بالناس ضاجا بهم، فيهم النساء وفيهم الرجال، يكاد لا يجد الواحد منهم كرسيا يجلس عليه، ولم يكن ينتظمهم نظام، فكلما وجد الواحد منهم سبيلا إلى موظف هَبَّ إليه..
كنت أريد الاستفسار عن أمر ما، وكان عليَّ أن أنتظر الساعة أو الساعتين لأجل أمر لا يستغرق حله سوى دقيقة أو دقيقتين.
-     ما شاء الله.. أنت هنا، تعال معي!
لست أدري من أين خرج هذا الرجل اللطيف بابتسامته!
ووجدتني -بعد لحظات من أفكار تتجاذبني للانصراف أو البقاء- في مكتب مريح، يستمع إليَّ الموظف بهدوء وأناة، ويقدم لي الخدمة التي أردتها خلال دقائق معدودة.
عرفني الرجل ولم أكن أعرفه، ولم يكن من اختصاصه ما طلبت، وكان مشغولا بأشياء أخرى، ولكنه أراد أن يحسن إليَّ بهذا الجميل، فلا أزال أذكره بتلك الابتسامة التي خرج بها عليَّ ولطفه البالغ، جزاه الله عني كل خير..

حسنا..
أريد أن أقول إنني تذكرت هذه المواقف، بعد أن سمعت حديث واعظ نبيه، ذكَّرنا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق".
أريد أن أقول إن الابتسامة شيء عظيم. كفاها شرفا أن تنسب إلى المعروف، وأن تتصل بالصدقة؛ فما ضَرَّ من ابتسم لكل الناس، وما نفع من تلقاهم بالعبوس والجفاء. ابتسموا يرحمكم الله!


(70)
وطن الكتاب
في زيارتي لمعرض مسقط الدولي للكتاب في إحدى دوراته؛ رأيت غير واحد من الكتاب، والأدباء، والباحثين، والفنانين، والأصدقاء. بعض هؤلاء من داخل عمان وشمالها، وبعضهم من ساحلها وجنوبها. بعضهم أراه لأول مرة، وبعضهم رأيته من قبل. بعضهم تجمعني به معرفة قديمة أو حديثة، وبعضهم لا علاقة بيني وبينه. بعضهم مَعْنِيٌّ بالخطاب المتديِّن، وبعضهم بخطاب آخر مختلفٍ عنه في قليل أو كثير. بعضهم مهتم بإخراج ما سطره العمانيون الأوائل، وبعضهم مهتم بتعزيز النتاج الثقافي الجديد. بعضهم مهتم بإنشاء الخطاب، وبعضهم بنشر الخطاب. بعضهم حديث التجربة في الكتابة، وبعضهم مُعْرِقٌ فيها ومخضرم.

كانوا جميعا، جماعات وأفرادا، يمضون إلى ما يناسبهم من الكتب، ويتبادلون أحاديث ودودة مع من يلقون، ويتجلى في وجوههم أثرٌ من الرضا والسرور بفعالية كهذه.

لاحظت أن حالةً من (الاختلاف الجميل) تسود المكان. كان معي ابني الصغير أسامة. لاحظت أنني وإياه مختلفان أيضا.. مختلفان في العمر، وأن في المعرض من يشبهنا في اختلافنا هذا، فَثَمَّ الصغار وثَمَّ الكبار، وثم من جاء باحثا عن كتاب، وثم من جاء باحثا عن تسلية يزجي بها الوقت!

هل لاحظتم أن فعالية كهذه يمكن أن يجتمع فيها المتناقضون على بساط من محبة، كما يجتمعون في وطن واحد يحبونه جميعا، ويعتقدون أن من واجبهم الوفاء له في كل الظروف؟

هل لاحظتم أنه صورة مصغرة للوطن الذي يسع الإنسان في كل أحواله؟ ..

هل لاحظتم أن الكتاب وطن مستقل بذاته، يفتح أبوابه لكل إنسان مهما كان.. هل لاحظتم أنه -في الحقيقة- أكثر من وطن -قياسا على قول العقاد الشهير- "القراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد"؟!!


(71)
أحب أن أكونه
يعجبني الإنسان الذي يجتمع له في وعاء روحه:
صادق التدين، ونافع العلم والمعرفة، وجميل الحضور في المجتمع، وذكيَّ الانفتاح على الجديد، واقتناص الدعابة في اللحظة المتجهمة، وأن يحبَّ الناسَ المحبةَ التي تفضي به وبهم إلى سعادة الدنيا والآخرة.
••
أُحِبُّ هذا الإنسان،
وأحب أن تربطني به العلائق القوية،
وأرجو –على رغم الغفلة والنسيان والخطأ- أن أكونه في يوم ما!



(72)
سجن
(الزَّعَل) -بما يعنيه من عدم الرضا، كما هو دارج في لهجتنا العامية، أو (السخط / الغضب) كما يقترح بعضهم مرادفا فصيحا له-؛ شيء لا أتقنه. حالة لا أحبها ألبتة، وإذا قُدَّرَ له أن يكون فإن صبري عليه سريعا ما ينفد، وأنقاد إلى ما يخلصني منه.
أميل (بشكل عام) إلى الرضا والتصالح مع من أحبهم، حتى وإن ابتدأوا هم بالخطأ، وكان يتوجب عليهم أن يعتذروا.

(الزعل) سجن يقيد الحركة في الداخل والخارج، سجن اختياري يقيد الإنسان فيه نفسه بملء إرادته، حارما إياها من كثير من المتع..

أعي وأتفهم وأمارس ما ينبغي للإنسان السَّوِيِّ من إحساس بالسَّخَط، ليشعر من حوله بخطأ ما فعلوه، ويدفعهم تاليا إلى الاعتذار وعدم تكراره؛ ولكن ما أعنيه هو أنني لا أتقن العيش في هذه الحالة الحيوية، التي -لا شك- أن مُتْقنيها يتحلَّوْن بِقَدْرٍ هائل من الصبر وقوة الأعصاب، وربما القدرة على العيش طويلا في عُزْلة وصمت.



(73)
دنيا صغيرة
(1)
-     أنتم أَوْلى..
لم تعد تجوز عليه مثل هذه الحيل؛ فقد حنكته التجارب مع أمثال هؤلاء، ومع ذلك فقد قرر أن يسير معه حتى النهاية:
-     بارك الله فيك.
-     أرجوك. فلنذهب بالعيال إلى البيت، ريثما ننتهي. لا يصح أن يبقوا في الشمس..
-     يا سلام!
أَسَرَّ بها، ثم أنشأ يجهر بالقول:
-     لا.. لا داعي لذلك. الأمر بسيط بإذن الله. أشكرك.
وحين مضى، كان صاحبنا يتفكر في هذا الرجل الذي قذف به القدر إليه فجأة..


(2)
في طريق ملتهب طويل؛ كان المكيف الجبار يغالب الطقس الحار، فيحيل السيارة جنة باردة بالقياس إلى ما هو خارجها..
ضحكات صافية بين أفراد الأسرة الصغيرة تملأ أرجاء السيارة، ولذة العصائر المثلجة تجعل ما يتبادلونه من طرائف حول ما جرى وكان خلال اليومين الفائتين ألذ وأحب إلى أن يكرر، وكان الكلام أوله وآخره عن هذه الرحلة السعيدة التي توشك على الختام بالوصول إلى البيت بعد سويعات قلائل.

ولم تكد تمضي الدقائق العشر الأولى، حتى وجد رَبُّ الأسرة نفسه في حيرة من أمره..
لقد غلب الطقس المكيف، فلم تعد له قدرة على التبريد، وارتفعت درجة حرارة السيارة إلى مستواها الأقصى؛ فسارع إلى إيقافها في ناحية من الشارع المتجه إلى مسقط..
لم تكن لديه خبرة كافية بأعطال السيارات، ولم يكن وحيدا فيسهل عليه التصرف، ولم يكن يحب إزعاج صديق له يسكن في المنطقة..
ماذا سيفعل!
إنها المرة الأولى التي يرى فيها ارتفاع درجة الحرارة بهذا الشكل.
قَدَّر أن هذا بسبب نقص في سائل التبريد، وقرر -بعد أن فتح غطاء السيارة الأمامي ففوجئ بضغط الحراة العالي- أن يريح السيارة قليلا، وقرر -برغم حيرته وعدم وجود خطة واضحة لديه- أن يستكمل على مهل عصيره البارد..

-     السلام عليكم.
فاجأه هذا الرجل، الذي ظهر على نحو غير متوقع، بعد أن مر كثيرون قبله، ورأوه على حاله تلك، دون أن يقف له أحد منهم..
شاب وسيم، في نهاية العقد الثالث من عمره، يرتدي ملابس أنيقة، ويضع على عينيه نظارة شمسية، وتحتويه سيارة (لاندكروزر) سوداء.
وليس يدري لم ارتاب فيه؟..
ألانه تذكر عددا من المتسولين الذين رآهم على الهيئة نفسها في مواقف وأماكن مختلفة؟ أم لأن الشاب بمظهره ذاك يبدو مترفا ناعما لا تُرجى منه المساعدة في موقف كهذا..
وإذن؛ فقد كان صاحبنا يتوقع المقدمة نفسها التي يستهل بها المتسولون كلامهم:
"كيف الحال أخي. أنت شاب طيب، ولن يخيب رجائي فيك. كنت قادما من طريق طويل، وقد تعطلت سيارتي، فأصلحتها، ولم يعد لدي مبلغ كاف للوقود، فأرجو أن تسا.."
-     سلامات..
قطع عليه تخيلاته، وشرح له سبب وقوفه..
لقد أتى الرجل لتقديم المساعدة حين رآه من ضفة الشارع الأخرى وهو يفتح غطاء السيارة، ثم يعود إلى مقعده دون أن يحركها!..
ولكن صاحبنا لم يطمئن له بعد. وما يدريه؛ فلعلها حيلة جديدة من حيل المتسولين واللصوص..
حين أخذا يفحصان السيارة معا؛ تبين من الحديث بينهما أن الرجل موظف في إحدى شركات النفط. كان في شارع فرعي، في طريقه لحضور مجلس عزاء لبعض أهله، وقد أخذ إجازة استثنائية من عمله لأجل هذا الغرض. سأله صاحبنا عن الدافع الذي دفعه لتغيير مساره ليأتي إليهم:
-     لمحت أن لديك زوجتك وأطفالك، فصعب عليَّ ألا آتي للمساعدة.
-     جزاك الله خيراً. لقد عطلناك إذن عن حضور الواجب مع الأهل.
-     أنتم أولى. سأذهب للعزاء في وقت آخر..
ورغم أن تحليل صاحبنا الأول لم يصدق؛ فإن بعض الشك لم يزل يخامره..

عرض عليه الرجل أن يذهبا بعياله إلى بيته، ولكنه أبى حذرا من الرجل الغريب. أصر الرجل في نهاية المطاف أن يذهب لجلب عامل ينظر في أمر السيارة..

(3)
حين عَرَّف الرجل بنفسه، والعامل يوشك أن ينتهي من عمله؛ فوجئ صاحبنا بأن الرجل أحد أقارب زوجته الذين يقطنون في هذه المنطقة. وحين عَرَّف صاحبنا بنفسه؛ فوجئ الرجل بأنه ابن زميل له في مكان العمل، أحيل على التقاعد قبل سنوات، وقد كان مضيافا كريما، محسنا لزملائه، لم تزل ألسنتهم رطبة بذكره الخيَّر..
يا لها من مفاجأة!
-     الدنيا صغيرة يا أخي!
قالها الرجل ومضى، وفي نفس صاحبنا من أثر إحسان هذا الرجل ما لا ينسى، فقد علمه أن عليه -بعد الآن- أن ينتبه لسوء ظنونه في الناس، وأن تشابه البدايات لا يعني بالضرورة تشابه النهايات، وأن الإحسان لا مظهر واحدا له، وأن في الناس -على اختلافهم- بقية خضراء من أخلاق أولياء الله الصالحين..



(74)
لغة صغيرة
في مرحلة ما من عمره؛ عرف (أسامة) أن الله قادر على كل شيء، بما يعني أن كل الأماني والأحلام يمكن أن تتحقق من خلاله. وفي يوم ما استحضر هذا المعنى، وكان –فيما يبدو- يود استرضاء أمه بعد أن غضبت عليه أو على أحد من إخوته؛ فقال لها، وهو يحيط وجهها بيديه الصغيرتين، ويَعِدُها بهديةٍ فخمة: ماماه.. لما أكون (الله) سأشتري لك سيارة كبيرة، أو كما قال –عفا الله عنه-!

كان وقع الجملة مضحكا في تلك اللحظة، وكنت وأمه بين إعجاب –نُسِرُّه- بهذا الربط، واستغفار –نجهر به- حتى يعلم أن هذا التركيب غير صحيح..
وكان وقع هذه الجملة –فيما بعد- مدعاةً للتأمل في كلام الصغار؛ كيف يمارسون طرفا من الفلسفة أو الربط العجيب بين المقدمات والنتائج!

هذه الأسئلة والأجوبة التي يفاجئ بها الصغير والديه، بحيث يبدو أكبر من عمره وأعمق تفكيرا مما هو متصور حول مستوى تفكيره؛ تجعل الواحد منا يحار أحيانا إن كان هذا الجواب علامةً على النبوغ المبكر أم علامة على جهله هو بما يملك الصغار من إمكانات تخفيها عنه اشتغالات اليوم وأحوال النفس هنا وهناك!
ما تزال ترن في أذني تعبيرات نطق بها أولادي في مراحل مختلفة من حياتهم. حدث هذا أمامي مرات، كما يحدث أمام كل أبوين مرات كثيرة، في مراحل مختلفة من أعمار أولادهم.

ومن ذلك؛ أن (الزهراء) كانت تقول للشيء يستعصي عليها جذبه: (تعال) كأنه يسمع ويعقل. يبدو التركيب مضحكا، لكن التأمل العميق يحيل (مثلا) إلى أن هذا هو جوهر (قانون الجذب) الذي يتحدث عنه المهتمون بتنمية الذات.
أما (المهند) فقد كان في يوم ما غاضبا مني؛ لأنني لم أشترِ له هدية أرادها وأصر عليها، فقال لي: أنت لا تحبني.. ومن الآن سيكون اسمي هو: المهند بن (خفي) بن علي.. لا مكان لك.. أنا وجدي فقط! .. هل كان الصغير يعبر من حيث لا يشعر –أو (ربما) يشعر- عن أن المحبة تثبتها أو تنفيها الأفعال فحسب، أم أنه كان يرمي إلى أن حضور اسم أبيه في اسمه دلالة على محبة أبيه له، وحيث إنها اختفت في هذا الموقف فليس من المبرر وجوده!!.. الله أعلم.

وزرنا أحد أعمامي يوما، فانطلق (المهند) مباشرة هو وبعض إخوته وأبناء عمه يلعبون في ساحة المنزل بألعاب هناك، أما نحن فكنا في المجلس نتناول القهوة، ثم لم تمض إلا دقائق معدودات حتى انفصل عن أترابه وجاء للجلوس معنا، فقال له العم: ما بالك تركتهم، ألا تحب اللعب؟ فأجاب –كما ينطق الحكماء-: بلى، ولكنها الحياة.. مَرَّةً لَعِب، ومرةً راحة!

ومثل هذا كثير عند كل الصغار عموما، ولكن عدم الانتباه إليه في حينه يحيله إلى زاوية مهملة في الذاكرة. إن تدوينه وحفظه، وتذكيرهم به فيما يأتي من الزمان، في لحظة مناسبة؛ له وقع لا ينسى. ربما تلهم الإنسانَ الكبير في مرحلة من مراحل حياته كلمةٌ أو جملة قالها وهو صغير، ولئن كان في صغره لا يفقه مراميها البعيدة فضلا عن معانيها القريبة؛ فإنه سيقف منها –وهو كبير- على معاني جليلة تبعثه خلقا آخر أفضل مما هو عليه، ولذلك قال الحكماء: "رب كلمة أيقظت همة فأحيت أمة" أو كما قالوا!


(75)
شبعان لكن بزندي
إسحاق بن فاضل الهدابي (32 سنة)؛ يعمل في سوق الأسماك في (فنجا) منذ أن كان عمره (13 عاما). ورغم التزامه بوظيفة في شركة خاصة فترة الصباح، فإن هذا لم يقعد به عن الوفاء لعمل حُرّ رافقه منذ أن كان فتى يافعا.
يملك إسحاق سيارة النقل الخاصة به، ويذهب إلى شواطئ محافظة الشرقية، يمكث يومين في مصيرة ومحوت، بانتظار قارب مليء بالسمك.
يبدو هادئا، لطيف التعامل، لا يحب الصخب ولا العنف، وبهذه الروح الطيبة يمارس عمله في ثقة.
حين أقبلت عليه، أحمل سمكا متوسط الحجم اشتريته من بائع آخر، ليقوم هو بتقطيعه؛ أخبرني بأن شخصا جاءه قبل قليل، يطلب منه تقطيع سمكة ضخمة بأقل من السعر المتعارف عليه في السوق. يقول: قلت له (لا)، فرد علي: أنت شبعان (يعني أن الشبع أبطرك عن العمل بهذا السعر)!.. فأجبته: صحيح، ولكن بزندي (يعني أنه وإن شبع؛ فإن ذلك من عمل يده، ولا مِنّة لأحد عليه) ..
••
لله در إسحاق وأمثاله من شباب عمان الذين يكسبون بفعل جدهم واجتهادهم، وحيا الله زندك يا أخي!


(76)
المدير المحبوب
في نهاية كل يوم عمل، حيث يقذف مكتب العمل في إحدى الإدارات الحكومية بموظفيه إلى بيوتهم؛ يقول المدير لكل من يلقاه منهم: أرجو لك يوما سعيدا.. يقولها مبتسما صادقا، وبمثل هذه العبارة يُوَدِّعهم لعطلة نهاية الأسبوع.

-     من أين يأتي المدير المحبوب؟.. أمن لطفه وكرمه؟ أم من حلمه وحزمه؟.. أم من ذكائه وخبرته؟.. أم يأتي من هذه الأشياء كلها؟!
تساؤلات طرحها على نفسه غير مرة، وكان يجد في كل هذه الاحتمالات جوابا صحيحا له ما يؤيده من المواقف التي اختلط فيها بمديره هذا..

في بداية عمله معه، كَلَّفه المدير بعمل ما، وكان يقول له وهو يشرح التفاصيل: "أنا أعمل على أن يكون العاملون معي قادة.. فكر بعقلية القائد". وجمع الموظفين ذات مرة، فقال لهم: "ينبغي ألا نسمح للعمل بأن يلغي علاقاتنا الأخوية والاجتماعية. جمعتكم اليوم لنتكلم في شؤوننا العامة المحضة.. هاتوا أخباركم". وليس ينسى -بعد أن سمح له ولزميل آخر بمواصلة دراستهما العليا- ما قاله لزميل ثالث لهما: "ألا تفكر في مواصلة دراستك؟ خطط لمستقبلك جيدا"..

-     من أين يأتي المدير المحبوب؟!..
أَحَبَّه لأنه صريح مباشر. قال له مرة إنه رشَّح فلانا (أحد زملائه) ليتم تكريمه في مناسبة ما. يقول له هذا، رغم أقدميته وخبرته. وأردف قائلا: لقد اخترته لإنجازاته النوعية. فعلت هذا تشجيعا له، ماذا ترى؟.. هل لديك مانع برغم أسبقيتك الوظيفية؟!.. ما كان المدير مضطرا لإخباره، ولا محتاجا لرأيه. ولأنه (مدير محبوب)؛ فلم ينزعج صاحبنا من الأمر، بل لقد تأوَّل لهذا الاختيار تآويلَ شتى..

وأَحَبَّه لأنه يقدر الإنجازات ويحترم الخبرات. قال له مرة وقد أنجز عملا نال استحسانه: أنت مبدع. وحين عرف أن لديه مهارات أخرى خارج محيط العمل، قال له: أنت إضافة قَيِّمَةٌ عندنا. وكان يُعَرِّفُه -في مناسباتٍ شتى، لمن لا يعرفه- ببعض مهاراته التي شُهِر بها خارج محيطه المهني..

-     من أين يأتي المدير المحبوب؟!..
مَرَّ عليه رؤساءُ كثيرون، وكان من بينهم من يتعنَّت في مَنْح إجازة مستحقة، بدعوى أن العمل كثير، ثم يسمح لنفسه بالتأخر عن أعمال مهمة وبالخروج في إجازات كما يشاء. وكان منهم من يستفيد من مهارات موظفيه في مصالحه الشخصية دون أن يشكر لهم صنيعهم أو يدعمهم في تعزيز مهاراتهم. وكان منهم من يستأسد إذا وجب العقاب، ويتوارى بالمشاغل حين تجب المكافأة أو يدس رأسه كالنعامة في التراب.

المدير المحبوب إنسان يتعامل مع الموظف لديه باعتباره إنسانا لا آلة.. توصيف سطحي بسيط، ولكنه عميق الدلالة. المدير المحبوب إنسان محبوب.. هذا كل ما في الأمر. نعم هو كذلك، وإن شئتَ توصيفا آخر؛ فهو المدير الذي يقف على إدارة مهمة، مكتظة بالأعمال التي يتعين إنجازها يوميا، وقد خرج بعض موظفيه في إجازة؛ ثم يستطيع أن يقول لموظف أرسل إليه أنه مرهق بسبب ظرف طرأ لديه ليلة أمس، ولم ينم بما فيه الكفاية:
-     صباح الخير.. لا تأتِ إلى المكتب إلا وأنت مرتاح وجاهز للعمل!



(77)
اللغوي السائق
حين اتصلت به جاءني صوت رجل في الخمسين من عمره. خطر ببالي أن الرجل يعمل مع صاحب المشروع، ولكنني تذكرت أن الاسم المكتوب في إعلان (الواتساب) هو اسم الرجل ذاته الذي أتحدث معه. أبلغته بطلبي، وأبلغني أن الحمولة تصلني غدا.
في الموعد المحدد؛ أقبل شاب في عمري تقريبا، أو أقل بقليل، يقود الشاحنة المحملة بالتربة الزراعية، وبعد جمل بسيطة بيننا حول المكان الذي سينزل فيه الحمولة عرفت أنه الرجل نفسه.
يبدو صوته في الهاتف أكبر من هيئته.
خطر ببالي وأنا أراه لأول مرة أنه استأجر الشاحنة من جهة ما، ثم باشر هذا المشروع: (توفير مواد البناء: الرمل العادي/ حصى الكنكري/ رمل البلستر/ مواد الردم/ التربة الزراعية).
سألته لاحقا عن هذا، فقال: إنه بدأ مشرعاته الخاصة منذ حوالي (ثماني) سنوات. ابتدأ بحافلات المدارس، التي يملك منها (خمسا) حتى الآن، ثم امتلك لاحقا هذه الشاحنة، ويستعد –مع شريك عماني- لامتلاك شاحنتين (قاطرة ومقطورة) عما قريب.
- لا شك أنك متفرغ لهذا العمل!
سألته، فأجابني بأنه قد أوكل العمل في هذه الشاحنة سابقا لعامل باكستاني، بعد أن كان لديه عقد مع إحدى الشركات. لكنه آثر أن يعمل عليها وحده منذ حوالي (ثلاثة) أشهر، بعد أن رأى عدم جدوى تشغيلها من قبل أطراف أخرى -كما يقول-.
يقول (حسين) إن الدخل المتوقع لمن يعمل في شاحنته بنفسه حوالي 1500 ريال شهريا.
ما زلت أحسب أن الرجل ابتدأ مشروعاته هذه بعد أن أنهى الثانوية العامة، أو استقال من إحدى الشركات، أو نحو هذا؛ حتى قال لي، وأنا أستأذنه لتصويره، للتدوين عن تجربته: إنه موظف في جهة حكومية. قال لي هذا وهو يبتسم في ظفر، فتذكرت عددا من زملائنا الموظفين، من ذوي الرتب الإدارية الدنيا، الذين يستعينون بأعمال إضافية لدعم رواتبهم، فلم يعد لدي شك في أنه في مثل هذا المستوى الوظيفي.
لكنه فاجأني بأنه حاصل على بكالوريوس في الأدب العربي من كلية الآداب بجامعة السلطان قابوس عام 2009م، وأنه في الفصل الأخير من ماجستير إدارة الأعمال في إحدى الكليات الخاصة، وأنه في وظيفة تناسب مؤهله الجامعي..
كانت مفاجأة لي، وربما تكون مفاجأة لمن يقرأ هذا أيضا!
أتحدث هنا عن الأخ العزيز/ حسين بن أحمد الرزيقي، من وادي بني خالد، الشاب الذي لم تثنه الوظيفة الحكومية ذات الراتب الممتاز عن عمل خاص ينفع به نفسه ومجتمعه.. لله دره!


(78)
اللحظة الحلوة
في الطريق إلى حديقة الألعاب؛ كانت الزهراء تترنم بهذا النشيد:
"فانسَ المآسيَ والهمومْ
وامسح دموعك والغمومْ
واعلم بأن الحزن شيء لا يدوم"..

كانت الصغيرة تعيش لحظتها السعيدة بمشاعرها كلها. إنها لم تر ما وراءها، ولم تكن تحفل بما يحيط بها. روح صغيره ترى الدنيا الكبيرة في الشيء الصغير..
وكذلك ينبغي لك أن تكون في بعض أحوالك؛ صغيرا كما الصغار، تسير منضبطا على وفق ما يفترض أن يؤدي إليه الموقف السعيد من حولك.

وكلما وجدت سبيلا إلى الفرح؛ فلا تغادر صغيره ولا كبيره، ولا تمدن عينيك إلى غيره من المشاعر. أما الهموم فلن تفتأ تتناول النفس من حين لآخر حتى تغادر الحياة، وليس يخفف منها استغراقك فيها، ولكن الفرح قد يفعل ذلك. هو بعض نصيبك من الدنيا، فلا تخذل نفسك في لحظة حلوة ربما لا تتكرر!..



(79)
الصلاة زينة
-     أي حلم غريب هذا؟..
قال لنفسه، وهو يفتح عينيه ويفركهما غير مرة، محاولا أن يجد تفسيرا لفراشه الذي انزلق من مكانه في وسط الصالة إلى هذا المكان!..

-     ما الذي أتى بي إلى هنا؟..
حين فتح عينيه وجد نفسه أمام باب الصالة المفتوح على الشارع الترابي الصغير، وجها لوجه -وهو في حالته تلك- مع من يمر في الخارج، وعثرةً في طريق من يريد الخروج من الداخل.

-     فعلها مرة أخرى..
لم يكن عسيرا عليه بعد أن تلاشت عوالق النوم الظاهرة والباطنة أن يفهم ما حدث، فهذا شيء يتكرر كثيرا من زميلهم وهو يوقظهم لصلاة الفجر أو العصر..
كان نومه ثقيلا، وكان صبر زميلهم هذا سرعان ما ينفد؛ فيعمد إلى سحب فراشه إلى باب الصالة الكبيرة التي جُعِلَتْ مكانا لنوم الطلبة في ذلك المركز الصيفي.

كان زميلهم هذا أكبر منهم سنا، وقد جُعِل في مقام المشرف عليهم. كان يأخذهم بالغلظة والفظاظة في بعض الأمور. ما يزال يذكر وجهه الذي مر عليه أكثر من عقدين من السنوات مذ رآه آخر مرة.. وجها أقرب إلى العبوس، كأنما استيقظ لتوه من النوم. لم تكن البشاشة مما يخالطه إلا نادرا، وكان في نظراته غير قليل من القلق والسؤال والتفكير..

حين رآه لاحقا في الجامعة؛ أشفق عليه، وعلى نفسه..
-     هل هذا معقول؟ هل يمكن أن يكون هو؟ أكاد لا أصدق!
لقد انقلب الرجل على عقبيه، واستبدل بهيئته السابقة هيئةً جديدة كَفَرَتْ بمظاهر تدينه السابقة، وزاد عليها أن أصبح من المدخنين..
-     يا للأسف!..

تداعت عليه هذه الذكريات كلها وهو يتفكر في خُلُقٍ جميلٍ لدى أحد زملائه في العمل. لقد تخرَّج من المركز الصيفي نفسه، ولكن طبعَه وصفاتِه صيّرته إلى غير ما صار إليه زميلهم الأول..
فهذا شاب بشوش، محبوب بين زملائه على اختلاف أطيافهم، يسعد بخدمة الناس، ويمتلئ نشاطا وحيوية وحماسة وهو يؤدي عمله..

كان زميله هذا آية في الحفاظ على الصلاة؛ فلم يشهد أن صلاة الظهر في جماعة قد فاتته منذ أن زامله. حين يحين وقت الصلاة؛ يدع كل ما معه من أعمال، ويَهُبُّ إلى الصلاة. ولن يغادر المكتب حتى يقول كلمته -التي توشك أن تكون علامة تنبيه مسجلة باسمه-:
-     أبا فلان.. (الصلاة زَيْنَة).. هلم يرحمك الله!

ثم يُعرِّج على زميل ثالث لهما في مكتب مجاور، فينبهه إلى الصلاة بأسلوبه اللطيف الخفيف، كأنما كان هذا أحد مهام عمله في هذا المكان.. يقول كلمته اللطيفة مبتسما ثم ينطلق، غير منتظرٍ الإجابة، ولا مراقبٍ من يمتثل، ولا مؤنبٍ من يتأخر.. يقولها ويجد السامع فيها صدق المودة وكريم الصحبة، فلذا قال بعضُ من ذكَّرَهم بأسلوبه هذا: خير تنبيه سمعته للصلاة؛ قول من قال لي: (الصلاة زينة)!



(80)
محمد ومدينة الزهور
لم يكن محمد يعلم أن فرصته الوظيفية ستكون في غير المجال الذي أنفق فيه سنوات الدراسة في الكلية التقنية.
حين تخرج، ولم يجد عملا فيما تخصص فيه؛ لم يتردد كثيرا في قبول وظيفة أعلنت عنها وزارة الأوقاف، حيث كان مؤهلا لها.
وإذن؛ فسينفق الشاب الطموح (10) سنوات من عمره متنقلا بين قرى جبلية في الباطنة والظاهرة، يرى من أحوال الناس وأحواله ما قد يلهمه فكرة تنهض بحظه في الدنيا والآخرة.
هل خطر ببال إمام المسجد، ذي المؤهل التقني لا الشرعي أن دكانه الصغير الذي افتتحه بعد (4) سنوات من عمله هذا سيكبر يوما ما، ويُدِرُّ عليه دخلا وفيرا يغنيه عن أي عمل حكومي، ويكون أدعى لاستقراره في (بهلا) التي نشأ وترعرع فيها.. ؟
كبر الدكان الصغير، وكبرت معه أحلام محمد الربخي.. أصبح اسم المشروع الآن (مدينة الزهور)، بعد أن كان (عالم النورس). وتضاعفت مساحته حوالي أربع مرات لتصبح الآن (1000) متر مربع، وتضاعف دخل المشروع بما مكَّنه من دفع إيجار شهري يزيد على 1000 ريال.
يقول محمد: إنه يسعى لتزويد محله بأفضل ملابس النساء والأطفال، وإن أمله في المستقبل أن يستوعب المشروع كافة أنواع الملابس.
يزوِّد محمد محله، الذي يعاونه في إدارة شؤونه موظفة عمانية، وثلاثة من العمال الوافدين؛ كل شهر أو نصف شهر ببضاعة جديدة ينتقيها بعناية.
يبتسم محمد ابتسامة صافية واثقة، وهو يقول: إن خطته المستقبلية أن يتعامل بشكل مباشر مع الموردين في الصين وبنجلاديش وغيرها، مستقلا عن الوسطاء الذين يتعامل معهم حاليا في أسواق الإمارات.
سألته: لم لا تفكر في وضع علامة تجارية خاصة بك؟ فقال إن هذا مكلف لأن المصانع لا توافق على شراء كميات قليلة، وليست لدي حاليا إمكانية لشراء كميات ضخمة.
بقي أن أخبركم أن (مدينة الزهور) تقع في حي المعمورة، في حلة (بقلات) على طريق كيد، في ولاية بهلا.
محمد بن عبدالله الربخي شاب عماني طموح يستحق الدعم والتشجيع..


(81)
الشيخ خلفان العيسري
المكرم الشيخ خلفان بن محمد العيسري، رحمه الله؛ أحد الدعاة والناشطين في المجتمع الذين استطاعوا أن يجذبوا إليهم أناسا على طرفي نقيض، مختلفي التوجهات والنزعات، والأعراق، والطوائف، وحتى الأديان! .. شهد على هذا جنازته المهيبة التي حضرها خليط عجيب من الناس، امتلأ بهم جامع علي الشيهاني الذي أقيمت فيه صلاة الجنازة، ثم تدفقت بهم شوارع الحيل الشمالية وأزقتها المفضية إلى المقبرة.

تحدث كثيرون عن سيرة هذا الرجل الفذ؛ بمقالات في الصحف والمواقع الإلكترونية، وتدوينات ومرئيات في مواقع التواصل الاجتماعي، لكن يبدو أن ما لم يكتب ولم يقل في حقه كثير، يحتاج إلى جهود مخلصة، ليكون نموذجا قريبا يحتذيه شباب هذا الوطن من كل الأطياف.

في جملة ما قرأته عن الشيخ خلفان أنه كان دائم التركيز على الإيجابيات، في كل المواقف والظروف، ومع جميع الأشخاص، وأن هذا كان منهجا واضحا له في الحياة، وقد أكد لي تبنيه هذا الشعار ما صدَّر به صفحته في (تويتر)، حيث كتب مُعَرِّفا بنفسه أنه (متفائل مهما كانت الظروف)!

تأملت كثيرا في هذه الجزئية، ووجدت أنها كيمياء النجاح –إن صح التعبير-؛ فالنظر إلى إيجابيات الظروف الصعبة –مثلا- يكفينا مؤونة مكابدة مشقتها، وينأى بنا عن ما يصحبها من منغصات، لأننا نعيش في أفق آخر منها، وهو النظر إليها –كما يعبر فقهاء التنمية البشرية- على أنها فرص ذهبية تتنكر لنا في هذا الزي الموحش، أو بعبارة أخرى "احتضانها كفرصة للتحويل والتغيير إلى الأفضل". وفي مثل هذا السياق سيقت جمل من أمثال (الشدائد تصنع الأقوياء)، و(المحن تتحول إلى مِنَح)، وغيرها من العبارات ذات الدلالة البالغة.

والكلام نفسه يقال عن التعامل مع الأشخاص؛ فالنظر إلى إيجابياتهم والتجافي عن سلبياتهم، يجعلهم يَبْدون في أعيننا على أنهم مصادر معرفة وإلهام. وفي الأثر المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم "الحكمة ضالة المؤمن؛ أنى وجدها فهو أحق الناس بها" ما يدل على هذا.

لطالما حرم كثير من الناس أنفسهم من الاستفادة من قدرات الآخرين وخبراتهم بسبب تركيزهم على سلبياتهم -أو لنقل (ما يعتقدون أنها سلبيات فيهم)؛ فالسلبية أمر نسبي في نهاية المطاف- حتى صاروا إلى ما يشبه الحكم المطلق أنهم لا خير فيهم، وحكموا بأن كل ما يصدر عنهم إن هو إلا خطأ وتخلف مبين، ولو تأملوا وتفكروا قليلا لعرفوا كم قد يُخْلف الناسُ سوءَ الظن فيهم:
ترى الرجل النحيل فتزدريه * وفي أثوابه أسدٌ هصورُ

إن النظر إلى إيجابيات من نختلف معهم في أي شأن من شؤون الحياة، يفتح أمامنا فرصا واعدة للنهوض بواقعنا ومعارفنا إلى الأفضل، وفي قول (نيتشة): "يكفي أن تنظر إلي على أنني عدو، حتى تخطئ في فهم كل ما أقول" إشارة إلى ما ينبغي أن نروض النفس كثيرا عليه!

 

(82)
الجامعي صاحب الجرانيت
حين اتصلت به أول مرة فاجأني بأسلوبه اللطيف. أخذت رقم الهاتف من واجهة المحل المغلق في (السيح الأحمر) بفنجاء. كنت أبحث عن جرانيت ورخام لسلم المنزل. وحين التقيته لاحقا، لم يكن مختلفا عن الصورة التي رسمتها له. أعني صورة الروح لا صورة الشكل. استقبلني بوجه يفيض بشاشة وثقة ورضا. كان كالواثق من أنني سأشتري منه لا من غيره. وكان أن فعلت، فكان عند حسن الظن فيه، تعاملا وبضاعة.

يملك الرجل ورشة في منطقة (المسفاة) لتقطيع الأحجار، وتصنيع نماذج رائعة من المغاسل، التي يقوم بنفسه على تصميمها.

سألته: هل أنت متفرغ لهذا العمل؟

فعرفت منه أنه بدأ مسيرة العمل في شركة تعمل في مجال تقطيع أحجار الرخام والجرانيت، وبعد أن تكونت لديه خبرة في المجال افتتح مشروعه الخاص، متفرغا له بالكامل.

سمعته يتحدث إلى العامل الموجود في المحل بلغة إنجليزية جيدة. قلت له: ما شاء الله.. تتقن الإنجليزية.. يبدو أن هذا من أثر العمل السابق في الشركة. ابتسم وقال: لا.. بل من أثر الدراسة. كنت أحسب أن الرجل شق طريقه في العمل منذ الثانوية، ثم بالممارسة أتقن الإنجليزية. حين سألته عن مكان دراسته أجاب بأنه خريج كلية التجارة والاقتصاد في جامعة السلطان قابوس عام 1998م، في تخصص (إدارة الموارد البشرية)!

قالها وهو يرسم على شفتيه ابتسامة هادئة، وكان جوابه مفاجأة لطيفة لي..

عرفت من (سعيد) أن عمله لا يقتصر على البيع في المحل فقط، بل إنه يقدم أيضا استشارات في مجال التحجير للشركات العاملة في هذا المجال..

*

أتحدث عن الأخ العزيز/ سعيد بن حمد الجابري، الذي يملك محل (آفاق المستقبل للرخام والجرانيت والخدمات) في السيح الأحمر بفنجاء. ولمن شاء التعامل معه؛ فإن المحل يقع في بناية على مخرج محطة (نفط عمان) في المكان المذكور.


(83)
لن تندم
على الرغم من اهتمام الكثيرين بها؛ فإنه لم يشعر بالرغبة فيها إطلاقا. لاشك أنها جميلة تلفت الأنظار وتخلب الألباب، ولكنه لم يتخيل إصبعه مسوَّراً بخاتم!..
كان صاحبها يتنقل بها بين المارة وسائقي السيارات؛ يعرضها عليهم، ويبالغ في وصف حسنها، أملا في الحصول على مقابل مُجزٍ..

حين جاء إليه كان كمن باع بخسارة، أو لم يبع شيئا على الإطلاق..
-     خذ يا سيدي، جرب.. لن تندم!
أمسك الخاتم بيده، وتأمل بقية الخواتم في الحقيبة.. لم يدر ما يقول، ولم يشأ أن يحرج الرجل الذي يبدو متعبا لكثرة ما طاف بين الناس في هذا الطقس الحار. حدثته نفسه أن الرجل فقير متعفف، يستعين ببضاعته هذه ليدفع عن نفسه ذُلَّ السؤال..

-     إنه جميل.. سآخذه.. بكم؟
-     ما تشاء يا سيدي.. كله مقبول منك..
أخرج من محفظته خمسة ريالات ونقدها الرجل. قرر ألا يقبل شيئا مما بقي له، ونوى أنها صدقة..
-     شكرا يا سيدي، ولكن ثمن الواحد منها خمسون ريالا!
قالها البائع محرجا، وقال صاحبنا بحرج مثله:
-     ما شاء الله.. كنت أظنها بأقلَّ من خمسة ريالات.. على كل حال، شكرا لك. أنا لا أحب اقتناء الخواتم، والخمسة حلال عليك..

حين وصل البيت، وتأمل الخاتم الذي عرض البائع عليه أن يشتريه بعشرين ريالا بدلا من الخمسين؛ كان يدخله ويخرجه في أصابعه لينظر أيها أنسب مكانا له. لقد اشتراه شفقةً بالبائع الجوَّال، ولكنه لم يَرُقْ له كثيرا.. ماذا عساه أن يفعل به الآن؟!

-     سأشتريه منك بـ 100 ريال!
فوجئ بالمبلغ الذي يعرضه عليه أحد هواة الخواتم من أصحابه، بعد أن أرسل إليه صورة الخاتم وهو يضعه في إصبعه. وهنالك تفكر فيما سمعه كثيرا عمن يقرض الله قرضا حسنا دون أن يتحسسه واقعا، وآمن أن الله لا يضيع أجر المحسنين، وأن العشرين التي ربما ظن في لحظة أنه أضاعها فيما لا قيمة فيه، ردها الله عليها مضاعفة خمس مرات..
الحسنة لا تموت، "وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم"!



(84)
مميز بالأصفر
مشيت بعد الفجر حوالي ثلاثة كيلومترات. حين خرجت من المسجد؛ كان صوت صرصور الليل (مسيهرو الليل/ في الدارج عندنا) لم يزل يُسمع في بعض الأنحاء، وكانت بعض زوايا الطريق مظلمة، والمصابيح الخارجية لبعض البيوت لم تزل تجاهد في تبديد ظلمة الدروب الصغيرة من حولها..
كان الهواء منعشا عليلا، وكان شيء ما في الكون يدعوني للمشي في هذا الجو الساحر البديع..

عَرَّجْتُ على البيت، وتناولت جهاز (الكندل). أقرأ الآن فيه كتابا لطيفا، عنوانه (مميز بالأصفر)، وصفه مؤلفاه بأنه مقرر مختصر للعيش بحكمة والاختيار بذكاء.
يحوي الكتاب مجموعة من الحكم والنصائح المفيدة. استمتعت بها وأنا أنفصل شيئا فشيئا عن السكك الضيقة بين البيوت إلى السيح الواسع الجميل. كنت أراوح بين القراءة والنظر والتأمل فيما حولي من مراتع الطفولة.

مررت على الملعب الذي لعبت فيه صغيرا. تذكرت الشاب الذي التحق لتوه بالجيش. كانت تعتريه نفضة خفيفة، وكان يبدو لي بلا لياقة كافية.. تذكرته إذ أنفق حوالي الساعة ركضا من الملعب وإليه. عرفت حينها أن الأشياء ليست كما تبدو أول مرة، وأن على الإنسان المحاولة بما يستطيع ليصل إلى ما يريد. وفي الكتاب كان إدوارد إي. هال يقول: "مجرد أنني لا أستطيع فعل كل شيء لن يجعلني أحجم عن فعل الشيء الذي أستطيع فعله".

واصلت المشي، حتى وصلت (وادي العْلَيْم). لا يسيل هذا الوادي -فيما أتذكر- إلا عند الأمطار الغزيرة على القرية. تسيل وديان على أطرافٍ أخرى من قريتنا بسبب اتصالها بوديان كبيرة، أما هذا الوادي فيبدو أنه وحيد في هذا المكان. جاء في الكتاب مقولة للأم تريزا: "العلاج الوحيد للوحدة والإحباط واليأس هو الحب". تبدو المحبة ماثلة في البيوت التي بدأت في الانتشار على ضفاف (وادي العْلَيم) الآن. غبطت سكانها وغبطت الوادي على أسرته الجديدة.

واصلت سيري وبدت لي مزرعة جدي الذي توفي قبل حوالي 20 سنة. كان يعمل في مزرعته بجد، ولم نزل نذوق الرطب والتمر اللذيذ الذي تأتي به النخيل التي غرسها. كان جدي لطيف المعشر، وكان يتحلى بروحِ دعابة يدخرها لأوقات خاصة فحسب. مضى جدي -رحمه الله- ولم تزل نخيله وسيرته اللطيفة تذكرنا به. قال لي الكتاب -بُعَيْد هذه الخواطر بقليل-: "احسب ثروتك بما سيتبقى لديك إذا فقدت كل مالك".

حين وصلت البيت؛ تناولت هاتفي الذي وضعته في الشاحن قبل المشي. في إحدى مجموعات الواتساب رأيت مقطعا مصورا لنشيد أنشده أحد الأصدقاء. أرسلته له ولمهندس الصوت الذي سجله. في النشيد ذكريات تجمعنا معا، وفي الكتاب كان جيني دي فري يقول: "حتى أبسط صنائع الإحسان تقول: 'أنا مهتم'، أو تقول: 'أنت مهم'، أو تقول: 'لقد فكرت فيك'."

حين كنت أرجع أدراجي إلى البيت؛ كنت أشعر باستمتاع كبير بهذه الفرصة التي أنعم بها الله علي، حيث جعلتني أتنسم هذا الهواء العليل، وأرى هذه المساحات الواسعة البكر، وأجتر ذكريات الطفولة الجميلة، وأحمد الله على نعمة اسمها (قريةٌ وُلِدَت في ناحيةٍ من سيح واسع). كان الكتاب يقول لي في هذه اللحظة: "إن الحياة تحثنا على التوقف قليلا والتريث والاستمتاع بمتعها البسيطة... سعيد هو الإنسان الذي يستطيع الاستمتاع بالأشياء الصغيرة، والمباهج البسيطة، والأحداث اليومية العادية… إن الحياة تدعونا لذلك، فما الذي ننتظره؟!"


 

(85)
فأعيديني إليها
أنا ابن القرية!
أحبها كما يحب كثير من أبناء القرية هذه الأيام السكنى في المدينة..
وصف بعضهم قريتنا -يوما– بأنها منسية، وأخشى أنها كذلك لأن الأيام والظروف تبعدنا عنها!

أنا القروي..
ماذا أفعل بهذا الحنين الجارف إلى قريتي الصغيرة؟..

حنينٌ يأخذ في عينيَّ أطراف المشاهد كلها لأنتهي في كل صورة إليها.. نخيلها و دروبها المتربة و بيوتها الطينية، والسواقي.. ما أجمل سواقيها!..
ولقد شهدتُني صغيرا وأنا أحمل المصباح في ليلة ظلماء.. أضيئ المكان من حول أبي الذي يقف على (صْوار الساقية) بـ (المسحاة) ليفتح دربا للفلج التي تنتظره مزرعتنا الصغيرة بفارغ الصبر..

كان أبي يقول لي –ونحن نذهب إلى ناصية الساقية–: أنتَ تؤنسني!.. هل كنت أنيسا حقا يا أبي، ويدي الصغيرة ترتجف في راحتك..؟ يمناي على المصباح الذي أدفع به الظلام القادم من الأمام، ويسراي في كف أبي أدفع بها الخوف من المجهول الذي ألتفت إليه بين حين وآخر أن يأتي من الخلف!..

رغم كل ذلك، فإن شعورا بالأمن كان يَعُمُّ حياتنا اليومية..
في القرية.. تعرفني كل الدروب، تعرفني وأعرفها.. أما دروب المدينة فلا تثبت على حال. تتعقد يوما بعد يوم، فتبدو في عينيَّ كلغز محير!..
يمر عليها كثيرون لا يتعارفون أصلا، فلا تهتم هي الأخرى أن تتعرف عليهم، وتُبقي على الرسمية بينها وبينهم..

فليعلم من يحبني من أصدقائي المدنيين أنني سأموت إذا ابتعدت كثيرا عن القرية، فمن ثم أحرص -برغم ما نشأ من ارتباط لازم في المدينة- على زيارتها دوما وأن أكون قريبا منها كلما أحسست أنها تحتاجني..

المدينة تخنقني، وتقتلني في اليوم والليلة مرات عديدة، وأنا أتألم بصمت جريحا وغريبا..

يموت في داخلي الإنسان الطيب الذي يعرفه الطين والفلج والنخلة، وأتحول –رويدا رويدا– إلى آلة تدور في مصنع كبير لا يهدأ دون أن يعبأ بها أحد..

هل يشعر بهذا أحد ممن حولي؟..
لست أدري، وأنا أعذرهم على أية حال..

بيتنا الصغير في القرية، وصفته إحداهن بأنه (عْوَر/ مقنّ دجاج/ حص)! وقالت أخرى ساخرة: يا لهذا البيت (الغاوي)!..
هذا البيت يسكن في داخلي، يزورني في كل مكان، وأزوره في كل لحظة.. لذا أحب كل شيء فيه، وفي كل مرة أرجع إليه أرى فيه شكلا جديدا من أشكال الحياة التي أفتقدها جدا في المدينة!

أقول لأهل بيتي دائما: إذا كان قدرنا أن نسكن المدينة –والمدينة ليست شرا كلها-، فليكن من تمام هذا القدر القرية –وهي ليست خيرا كلها-: ألا نبتعد عنا كثيرا..

كتبت لزوجتي مرة: لأني أحب قريتي عرفت حب الوطن. ولأنك وطني؛ فإن حبي لك يزداد بقدر كل زيارة إلى القرية.. كأن البراءة الظاهرة في كل ما فيها تنداح في خاطري رؤى وأحاسيس، لأطل عليك بعدها حبيبا مشبعا بالبراءة.. ألا يحتاج الحب إلى البراءة لينمو ويقوى؟
إن الحب الذي تنزع البراءة منه هو حب بوليسي.. حب جامد كقاعدة الرياضيات لا تقبل استثناء ولا تُعنى بأي منعطف.. هو حب تضيق معه السماوات والأرض والجبال.. هو حب أسود مشرد تتقاذفه الطرقات كعودام السيارات التي تتبعثر دون اتجاه محدد لتؤذي الخلقَ برائحتها الضارة..
إن الحب الحقيقي أفق لا حدود له، وهو نور على نور رائحته كالتضحية في سبيل الوطن!
(إن حبي في بلادي، فأعيديني إليها)..


(86)
إجازة القراءة
صديقي العزيز الأستاذ: أحمد الراشدي، مؤسس مبادرة القرية القارئة، والناشط في مجال تحبيب القراءة إلى الأطفال؛ بيني وبينه ذكريات وحكايات. كنا زملاء أيام الجامعة، وثمة تأكدت العلاقة بيننا.

في سنة من السنوات -وعلى رغم ما يكابده سكان القرى من أشواق لقراهم لا سيما في الإجازات الطويلة-،؛ أنفقنا معا إجازة دراستنا الجامعية في شقتنا بمسقط (وهي شقة عزابية)، عاكفين على تتبع روايات أدباء كبار، نقرأ إبداعاتهم صباحا ثم نتناقش فيها على طاولة الغداء والعشاء.. لا شغل لنا إلا القراءة!
وقد كان للفكرة أثر طيب، ما زلنا نشعر به ونتحسسه إلى اليوم..

التقينا مرة بعد فراق دام حوالي خمس سنوات، وقد اتفقنا إبان ترتيب الموعد أن نستعيد هذه الذكريات بالنقاش حول رواية عمانية فازت بجائزة عالمية، كنت قد قرأتها، فيما شرع أحمد للتو في قراءتها. لقد اتفقنا على ذلك، ولكن  السنوات الخمس التي مضت دون أن نلتقي خلالها وجها لوجه، قد أنستنا الحديث فيما اتفقنا عليه، وأخذتنا إلى دوائر من الحديث، تتسع مرة بعد أخرى، عن الأولاد والبيت وغيرها من الشؤون الخاصة..

كلما تذكرت الأيام التي جمعتني بهذا الإنسان الجميل؛ بت واثقا أن العلاقة التي تؤسسها المعرفة ومعالي الأمور أدنى إلى الخلود والثبات حتى مع تطاول الأيام دون لقاء، وتباين الأحوال في قليل أو كثير.. أسأل الله أن نكون مهدِيَّيْن إلى سواء السُّبُل، مباركَيْن في الحل والمرتحل..


(87)
يخدمها ولا يشربها
بعد أن أمضى أبي عمرا طويلا مع القهوة؛ قال له الطبيب: يجب أن تتوقف. إنها السبب.. كان يشكو من حُرقة في الصدر، وحين قال له الطبيب ذلك؛ توقف عنها تماما..

عاتبه كثير من أقرانه، ممن نادموا القهوة معه في المجالس والأسفار، وقد عهدوه لا يُخْلِف مواعيدها. قال له أحد أعمامي متعجبا أو مشككاً: عليّ.. أتقدر على ذلك؟ وقال له آخر مازحا: لا تستمع إلى كلام الأطباء، وقال له ثالث: لقد أنفقنا في شربها عمرا طويلا فلم نجد فيها ما يضر..
كان أبي يحب القهوة كثيرا، وربما شرب في يومه دلَّة كاملة أو قريبا منها، ولكن ما الحيلة؛ فهذا ما قاله الطبيب!..

وبعد أن انقطع عنها، فوجد الشفاء مما كان يشكو منه؛ لم يشأ أن يقطع عادات القهوة كلها..
كان من عادته في مكان عمله أنه يصنعها منذ الصباح الباكر، فيتناول منها ما يتيسر ثم يُعِدُّ أخرى ليتناولها مع من يمر عليه من زملاء العمل وقت المساء. وحين انقطع عنها؛ كان زملاؤه يزورونه -في مواعيد يعرفها ويعرفونها- فيجدون دلة القهوة وآنية التمر جاهزين في انتظارهم..
كان يصنع القهوة، وتمتلئ حواسه برائحتها -وهو العاشق لها في زمان مضى- منذ أن يخرجها من كيسها وحتى لحظة صبها في الدلة؛ فلا يذوق منها قطرة، ولم تحدثه نفسه أن ينقطع عن هذا الفعل فترة عمله كلها..

كان الرجل السبعيني، ولم يزل؛ يحب الخلطة بالناس، لا سيما في مكان يبتعد فيه عن أهله وعياله أسبوعين من الزمان، كما هي ورديَّات العاملين في شركات النفط..
وكان يزوره من زملاء العمل من يعرفه ومن لا يعرفه، ليتناولوا قهوته التي عرفوها فيما بعد بقهوة أبي حسن. ولم تزل ألسنتهم رطبة بذكر جميله الذي كان يبذله راضي النفس مبتسم المحيا محبا لأضيافه..

وكان ممن يزوره أحد البدو الشعراء، فقال فيه:
أبو حسن طيِّبْ، وطيِّبْ سونه
له سبلةٍ كل العرب ينصونه
رجلٍ كريمْ، الضيف ما يذمُّونه
رجلٍ يقرِّبْ دلِّتَهْ وصْحونه!

وقد تعطَّلت سيارتي مرة في طريق، فوقف لي شاب، ولم يفارقني حتى استقدم لي عاملا لإصلاح السيارة فغادرت المكان. حين عرَّفت هذا الشاب باسمي، فسمع القبيلة؛ ذكر لي أنه يعرف شيخا كبيرا تقاعد منذ سنوات، كان يعمل إماما للمسجد في شركة النفط التي يعمل فيها، وكان يزوره في غرفته ليتناول قهوته..
-     يخدمها ولا يشربها.. الله يذكره بالخير!

قالها الشاب، وكادت تطفر من عيني دمعة؛ إذ تذكرت ما قرأته مرةً في تفسير الآية من سورة الكهف: "وكان أبوهما صالحا"، نقلا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- من أن الولدين المشار إليهما في الآية "حُفظا بصلاح أبويهما"؛ فكأن إحسان هذا الشاب إليَّ كان من إحسان أبي إليه!
_________
سونه: الأقرب أن يكون معناها: طبعه أو سيرته.
ينصونه: يقصدونه.
يخدمها: يصنعها.


(88)
كيف نجعله سعيدا؟
- ماذا يبقى لنا من العيد.. ؟

ذكريات الأنس والبهجة والفرح الطفولي العارم، المواقف التي سنذكرها بعد حين من الزمن بأشواق ثَرَّةٍ وحنين ضروري وكمالي، المشاهد التي سنسترجع ما فيها من لطائف وطرائف فنضيف إليها بعفوية طفولية الكثير من التفاصيل في كل مرة أملا في أن تبقى وترسخ، المواقف التي جمعتنا بأقاربنا الذين حسبناهم وحسبونا أباعد بسبب ما شجر لدى كل طرف منا من شواغل، المعارف الجديدة في العادات الحميدة والتقاليد الودودة، صور متفرقة للأماكن والدروب وألعاب الأطفال وعيدياتهم التي يختلفون في الاهتمام بها بين مُقَتِّرٍ ومُبَذِّر، روائح العرسية والمقلي والشواء والمشاكيك، وصور وأصوات وروائح وأحاسيس متفرقة لا يجمعها في الزمان والمكان إلا العيد السعيد..

العيد أن يكتشف الإنسان الموغل في عزلته وصمته أن عليه أن يكون اجتماعيا بعد الآن، فيقترب من أهله وجماعته. العيد أن يزورك في البيت إنسان تعرفه وتجهله في آن واحد، فتكتشف فيه إنسانا جديدا لم تعرفه من قبل، فتقول لنفسك: ياه.. يبدو لطيفا جدا، لم أتصور أنه هكذا من قبل!

العيد أن تنفتح الأبواب عن شخوص تتحدث بنعمة الله عليها، وأن تسيل الطرقات بالمكبرين الله وهم ذاهبون لمصلى العيد، وأن يُحْمَدَ الله على نعمة اسمها (العيد)، وأن يعاد العيد لمن طار به عنهم المرض أو كبر السن..

العيد أن يبقى هذا كله في مكان عزيز من الذاكرة واللسان والضمير، وأن نظل بعد كل عيد نتشوَّف إلى العيد الجديد كيف نجعله سعيدا خيّرا مباركا..


(89)
الرقم الاجتماعي
يُعينك على أن تتكلم الكلامَ الذي عضَضْتَ أصابع الندم لأنك لم تقله في موقف مضى، وأن تتصرف بحكمة بالغة في موقف آتٍ، وأن تدفع عن نفسك الحرج في مواقفك كلها، وأن تكون مؤثرا -بشكل أو بآخر-، وأن تكون -إجمالا- على طبيعةٍ غير متكلفة؛ أن تفهم من أنت، أن تُعَرِّف نفسك بنفسك، وأن تعيد هذا التعريف بين حين وآخر، للتأكد مما استجد ومما انتهى!

ستجد أن من فوائد ذلك أن تستحضر الأقوال والأفعال التي تُعَبِّرُ بجلاء عن ذاتك كما هي. ستتصرف ببساطة إن عرَّفْتَ ذاتك بأنك (شخص بسيط)، وبِحُرِّية إن عرَّفْتَ نفسك على أنك (إنسان حر)، وستبتسم، حتى في أحلك اللحظات، إن عرَّفْتَ نفسك (إنساناً سعيدا) في الحياة. ستكون (مهابا) في المواقف التي تجدر فيها الرزانة والوقار، و(بالغ اللطف) في المواقف التي يحسن التبسط فيها، وهكذا..

استمعت قبل فترة من الزمن إلى مقطع صوتي، يبدو أنه لأحد المختصين في تنمية الذات، يتحدث فيه عما يسمى (الرقم الاجتماعي). ومفاد كلامه أن مكانة الإنسان تتغير باختلاف المكان والوسط من حوله، فمن يكون (مسؤولا) مقدما في كل شيء في مكان العمل، قد يكون (آخرَ) من يستشار بين أهله، بالنظر إلى فارق العمر بينه وبين إخوته، أو طبيعة الموضوع الذي يجري التشاور فيه، وغيرها من المعايير. وإن من الخطأ بمكان أن يعود (المدير) مثلا إلى بيته أو يذهب للقاء أصدقائه (بالعقلية أو المكانة) نفسها التي يذهب بها إلى مكان العمل.

إن هذا قريب جدا مما نقول هنا. إن شخصياتنا -في بعض تمظهراتها- تعريفات أو أرقام، فعَرِّف نفسك بالخَيِّر من القيم والجميل من الصفات، وأعط لنفسك الرقم الاجتماعي المناسب..

ولئن طمست الحياة بمشاغلها وسرعة دورانها ذواتِنا بأدواتٍ مختلفة، فإننا نحتاج إلى مقاومتها بهذه السياسة البسيطة والعظيمة..


(90)
الكبار الصغار
لطالما رددت أمي أمنيتها في الذهاب إلى الحج، وقد شاءت أقدار الله أن تنتظر بلوغ أصغر بنيها 23 عاما حتى تتحقق لها هذه الأمنية العزيزة.

قبل يومين؛ سافرت -حفظها الله- بعد أن استعدت لذلك منذ زمن طويل. سنفتقدها كثيرا، وهي التي لم تخرج من البلد إلا مرة واحدة؛ وسنفتقدها أيام العيد أكثر وأكثر، وهي التي كانت بين أعيننا في كل الأعياد..

قلت لها قبل أيام: كيف سيكون عيدنا هذه المرة يا أمي؟

ضحكت، وبكى فؤادي..

فمنذ أن عرَفَنا العيد وعرفناه؛ كانت أمي بؤرته المضيئة. يدور العيد على ضحكتها التي تشع في أرجاء البيت، ويحيا بما تقصه من حكايات الزمن الجميل، أو بما تصنعه من خبز (الرخال) اللذيذ واللحم المقلي ثاني أيام العيد، وينام قريرا بعد أن نتفرق عنها بانتهاء الإجازة المقررة..

نعم؛
كان العيد يبدأ من بين يديها الكريمتين، وينتهي بينهما..

آه.. الكريمتان!

حملتنا صغارا، وصافحت أيدينا ووجوهنا كبارا، ومسَّدت بهما شعر أطفالنا ومدَّت بهما إليهم (العيدية) و (الغنائم) وقد أصبحنا آباء..

أمي التي كان أول ثلاثة من أولادها ذكورا، لا يُحسنون ما تُحسنه البنات من أعمال البيت، فتقوم به وحدها: تجلب الماء إلى البيت من الفلج أو الخزان الحكومي، وتغسل، وتطبخ، وتنظف، وتعتني بصغير، وتدير ميزانية البيت، وتجلس إلى جانب ولدها الذي دخل المدرسة حديثا وشرع يكتب واجباته؛ أمي هذه كانت -وراء هذا كله وأمامه- أبا يعوض صغارها عن أبٍ مكافح كان قدره أن يعمل بعيدا عن بيته فترة طويلة من الزمن..

هطل المطر ذات مرة غزيرا، فتسرب الماء من سقف البيت، في (الدهريز) الذي كنا ننام فيه. كان ذلك في منتصف ليلة سوداء باردة..

ماذا يمكن أن تفعل أم وحيدة بأبنائها الأربعة في هذا الليل؟..

لم تجد غير لوح الأواني الذي كان بطول ضلع إحدى غرفتي البيت لتجعل فرشنا تحته.. فيما بقيت المسكينة في زاوية من تلك الغرفة، ينالها المطر ولا يغمض لها جفن!

لقد أظلتنا بجناحها، وحمتنا، وأرشدتنا..
فالآن الآن يا أمي الحبيبة نشعر أننا صغار كما كنا ليلة المطر..
سنفتقد كثيرا طلتك البهية علينا وأنت تقولين لنا فردا فردا: "نْعمت ببركات العيد"..

ولأنك في رحاب مكة والمدينة؛ فإن في هذا سلوى لنا وحسن عزاء.. عيدك أجمل في تلك الرحاب الطاهرة، وعيدنا سيكون أجمل يوم عودتك بإذن الله!

أظلك الله يا أمي بوارف ظله في الدنيا والآخرة، وحَماك، وأرشدك إلى صالحات الأعمال، وجزاك عنا كل خير، وتقبل منك، وأعادك إلينا سعيدة سالمة غانمة. اللهم آمين..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق