الاثنين، 26 ديسمبر 2011

.. ت ب ت س م ي ن ..


وتبتسمينْ..
تتحدينَ في معنى ابتسامتكِ
المضاءةِ من جوانبِها .. بروحِ الياسمين!
وتبتسمينْ..
ترتفعينَ في الآفاقِ بدراً ..
آهِ.. ما أحلى مُحَيّاهُ
إذا ابتسمتْ ثناياهُ
وقالَ لكلِّ من في الأرضِ
هذا النورُ أُغْنِيَتي لكم
كيما تعيشوا هانئينْ
وتبتسمينْ..
تعترفينَ بالكونِ الذي
كَمْ جَمَّلَ اللهُ الحياةَ بهِ ..
نسيرُ على مناكبِهِ
نطيرُ إلى مواكبِهِ
ونرجعُ مؤمنين !

الأحد، 4 ديسمبر 2011

سنفتقدهم .. يوما ما !!


سنفتقدُ هؤلاء (الشيّاب) يوما ما.. أعني أننا سنشعر بحجم الفراغ الذي خلفوه من بعدهم يوم أن يغيب عن الحياة أسلوبهم في الكلام والألفاظ التي يتداولونها في تفاعلهم مع مكونات الحياة.. سنفتقد الوقع الطريف لبعض الكلمات الفصيحة التي أعادوا تشكيلها لتناسب مجرى اللهجة.. سنفتقد هؤلاء الشيّاب الرائعين لأن لهم طرائقَ جميلةً في الكلام، تزيده حلاوة وتفعل الفعل العجيب في ربط السامع بموضوع الحديث، كما أنها تكشف في بعض الأحيان عن خُلُقٍ جميل، أو ترابط اجتماعي عميق، أو معيشة صعبة..

يدخل أحدهم بيتا ما فيقول: (هود هود) علامةَ الاستئذان والتنبيه لأهل البيت، ويرد عليه صاحب البيت: (قْرَب)، فإذا جلسا في (السبلة) مضيا في حديثٍ أَوَّلُه: (ماشيء علوم؟) -(تسلم وتدوم)، (ماشيء أخبار؟) –(سْكون) أو (ساكنة الحوادث)، وأحيانا يكون الرد إبداعيا، فيقال: (كوسٍ هابّة وغديرٍ صافي). ثم يأتي السؤال عن بقية الأهل، فتخرج جُمَلٌ من مثل: (ما حد يعوره شيء) أو (ما حد متعاضل من شيء). وفي مثل جلسة هذين، تنتشر كلمات كثيرة وجمل تعالج مواقف متعددة، كأن يقبل أحد أطفال البيت إلى هذا المجلس فيقوم الزائر له أو ينحني مُقبّلاً إياه، أو أن يُزيل أحدهما القذى عن ثياب آخر، أو شيئا من هذا القبيل فحينئذ يقولون: (الله لا يصغرك) والجواب (ما على الأجاويد صغران)، أو أن يتطرق أحدهما في حديثه إلى شيء ينبغي الترفع عنه، فيقدم له بكلمة (تِكْرَمْ) ويرد الآخر: (وانته كريم).

وعند انتهاء الجلسة يفترق الزائر والمزور بمثل هذا: (فْ خاطرك شيء؟) –(عزيز وغالي) أو (ما عنكم غناة) أو (سلامة رأسك)، وهنا قد يصر صاحب البيت على أن يتناول الزائر الغداء معه، فيرد الآخر: (غَدانا محْتاز).

ويحكي أحدهم الحكاية فتتكرر على المسامع أمثال هذه المفردات: (قال يقول) ليخبر السامع بمقول أحد أشخاص القصة، وكلمة (تسمع) يستخدمها لاحقةً لفقرات القص أو لازمة في ثنايا الكلام دون ترتيب منتظم، كأنما ليتأكد فقط أن المستمع ما زال منتبها لما يقول.. ويتفاعل السامع منهم مع المتحدث، فيقول لحظة الاندهاش والاستغراب: (اسمع) يكررها ثلاث مرات متسارعة..

وتجلس إلى أحدهم فيشهد أو يسمع عن موقف طيب، فيُعبِّر عن نشوته بصوت يخرجه غالبا من الأنف (إه إه) أو (هـُ هـُ) كأنه يقول: ما شاء الله!.. وربما كان الصوت نفسه مع تغيير في جرسه وقوته تعبيرا ساخرا عن عدم الرضا ممن يقول أو مما يقال.. وقريب من هذا صوتان يعبر بهما أحيانا عن الاستغراب: (أَيْ ها)!
ولصاحب المولود الجديد يقولون: (نعمت بالزايد)، وللعائد من السفر أو الناجي من حادث: (استاهلت السلامة)، وفي أيام المطر يقولون:(نعمتوا بالرحمة) فيكون الجواب (رحمْةٍ بادّة)، وفي عتبهم على من يحبون يقدمون أحيانا بقولهم: (بعيد الشر)، وفي أدعيتهم على من يكرهون تسمع منهم أمثال هذه الجمل: (الله يصرفه صَرْفَة) أو (الله يِـخْلِيه خَلْيَة) أو (ضْعيف الطبع) أو (سْويد الوجه) أو(الحصيني)، وعند حث الركب على التعجيل -وأكثر استعمالها عند أهلنا من البدو-: (الليل الليل)!

سنفتقد –حتما- لغة شيّابنِا الرائعين هذه.. وسنفتقدها أكثر عندما تسمع اليوم من يجيبك إلى شيء فيقول: (اوكي) وكان آباؤه يقولون: (انزين) أو (فالك طيب)، ومن يتعجب من شيءٍ فيقول: (واو) وكان أجداده يقولون: (اسمع انته) أو (شوف انته)، ومن يشكر لك حسن الصنيع فيقول: (ثانكس) وكان شيّابُه الرائعون يقولون: (تْجَمَّلْت) أو (جْمِيلك واصلْ)!

الثلاثاء، 15 نوفمبر 2011

أؤلئك الذين اشتروا الضلالة..


..(الانقلابي)..
شخص يعيش على (الانقلابات)، يقتات عليها، ويتخذها منهجَ حياة..
ينقلب على محيطه العام، ثم ينقلب على رفاقه، ثم على محبيه، ثم على أهله، وهكذا..
دائرةٌ لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد!
هو في بحث دائم عمن ينقلب عليه،
يخترع لذلك الأسباب والمبررات، ويسوق الحجج والبراهين،
يعمي عينيه، ويُصِمُّ أذنيه عن كل ما يشير إلى عكس ما اخترع و ما ساق
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ)
ثم يؤمن بما يخترع و ما يسوق،
حتى لكأنها (أستغفر الله!) الحقُّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..
لا يستمعُ إلا إلى صوتِ نفسه، و لا يذكر جميل من أحسن إليه، و لا يلتمس العذر فيسعى لتبين جوانب الحقيقة، و لا يستطلع نتائج تصرفاته الرعناء..
وفي النهاية..
بعد أن يحاط بثمره، ويصبح (يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا)، (وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا)، يجد نفسه وحيدا، وحينئذ ينقلب على نفسه، فهو أولا وآخرا من (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ)!!

الاثنين، 14 نوفمبر 2011

حساسية الرمز


إذا سقطت صورة الرمز ، و ظهرت قطعا متناثرة ، فإن الرمزية التي تحملها تموت !
و لن تحيا إلا إذا اجتمعت الشظايا المجروحة في جامع وتوحدت في صلاة صاعدة .. فإنها حينئذ ستعود و ستنمو كما الروح  إذا تدفق فيها ماء الخشوع من وحي الصلاة !
|||
تحتاج القطع المنثورة إلى مهارة بالغة عند إعادة التجميع ، فأي خطأ يسيط لن يحيل إلى الصورة الأولى ، بل إلى ما يشبهها ، وعنئذ تتغير درجة الإلهام !
|||
أرجو أن تكون أكثر حرصا ..

الأحد، 23 أكتوبر 2011

من يخوض المغامرة ؟


إحدى المجلات النسائية المتخصصة التي تعنى بثقافة المرأة كتبت تفسر اسمها (مغامرة الكتابة في المرأة ، و مغامرة المرأة في الكتابة) وكأنها تتبنى مشروعا صعبا، و أحد أساتذة الإعلام يصف في إحدى محاضراته  محاولة إصدار مجلة نسائية جادة بأنها (مغامرة)!!.. ترى هل هي فعلا مغامرة ، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون ضربا من اللعب بالكلمات !!

تمتلئ ساحتنا الثقافية اليوم بمئات المطبوعات العربية الورقية و الإلكترونية الموجهة للمرأة ، و لكنها – للأسف – لا تلبي الحاجة الإعلامية للمرأة العربية المسلمة ، فهي تصرف نظرها إلى قضايا فرعية و هامشية ، لا تقع في دائرة اهتماماتها الأساسية ، إما لأسباب دينية و ثقافية و حضارية مجتمعة أو متفرقة، و إما لأن الواقع العام الذي تعيشه الأمة عامة يفرض عليها أولويات من نوع آخر.

إن اطلاعا سريعا على هذه المطبوعات يفضي بنا إلى شعور بالأسف ممض ، و مرارة تعتصر الفؤاد . ذلك أن مضامينها لا تعكس الحاجات المعرفية الحقيقية التي تحتاجها المرأة العربية من أجل النهوض بواقعها من حالة الضعف إلى حالة القوة من ناحية ، و هي من ناحية أخرى تكريس لفكر فئة معينة ليس لها الحضور القوي في المجتمعات العربية . و ليست المشكلة في أن تتحدث مطبوعة ما بلسان فئة معينة ، فلكل إنسان الحق في أن يعبر عما يعتقده من آراء ، لكن المشكلة تكمن في أن هذه المطبوعات تقدم نموذجا للمرأة لا يمت بصلة إلى واقعنا المعاش ، فهو نموذج منقول دون تغيير يمثل واقع المرأة الغربية في انحرافاتها الفكرية و الأخلاقية ، و اهتماماتها الضيقة .
إن المرأة العربية المسلمة تواجه اليوم وضعا معقدا للغاية ، تحتاج بإزائه إلى خطاب يتوجه إلى الجوهر و المظهر في آن واحد ، ينهض على توازن يجافي الإفراط و التفريط معا ! على أن يتأسس هذا الخطاب أولا و أخيرا على مبادئ الشرع الإسلامي الحنيف الذي تحتكم إليه مجتمعاتنا .
و لذلك فإن السؤال يطرح نفسه بقوة .. ترى أين تغيب موضوعات مثل ( تعليم المرأة ) و ( العنوسة ) و ( الحياة الزوجية ) و ( تربية الأطفال ) ، و غيرها من الموضوعات التي تهم المرأة عن بال الذين يقفون خلف الصحافة النسوية ؟ بينما يتم التركيز على موضوعات بعينها مثل ( التجميل ) و ( الأزياء ) و ( الديكور ) !! هل يقف دور المرأة في حياتها عند حد الاهتمام بمظهرها فقط ؟!!

إنه لمجافاة للحقيقة أن نقول إن هذه الموضوعات ليس لها حضور في حياة المرأة ، و لكننا نصر في الوقت ذاته على أن هذا الحضور لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يطغى على – فضلا عن أن ( يلغي ) – حضور مواضيع تبني شخصية المرأة حضاريا و فكريا .

و إذن فليس عجيبا أن نسمع امرأة عربية تقول عقب اطلاعها على مجلة عربية : " إنني أشعر بالإحباط " . و ليس صعبا أن ندرك سر هذا الإحباط ، فهو يرجع إلى أحد سببين ، يتعلق كلاهما بثقافة المرأة و وعيها :
الأول : أن المرأة العربية المسلمة التي تفتقد القاعدة الثقافية الأصيلة التي توجهها – و هي تواجه الهالة الإعلامية الهائلة التي تصحب فكر التغريب الموجه للأمة بشكل عام – لابد و أن تشعر بالإحباط بإزاء واقع لا يسمح لها أن تهتم بما تهتم به المرأة العصرية كما تقدمها تلك المطبوعات ، حيث تختار أغلى العطور ، و تركب الفاره من السيارات ، و تسكن القصور الفاخرة ، و تتابع موضة الأزياء أنى اتجهت وسارت ، بينما هي لا تزال أسيرة واقع يرى في خروجها للعمل نشازا فاحشا عن نغم الحياة المعتاد !
الثاني : أن المرأة العربية المسلمة التي تحصل لها قدر كاف من الوعي بحقوقها وواجباتها ، لا بد و أن تصاب بهذا الشعور و هي ترى أن الخطاب الإعلامي الموجه لها يعكس موضوعات تافهة لا تلامس حاجاتها الملحة . إنها ترى أن هذه المواد المطروحة لا تسهم في بناء كينونتها الثقافية التي تنهض على أسس وطيدة من الدين الحنيف و الأخلاق القويمة و القيم الأصيلة ، بقدر ما تسهم في تكريس الواقع المرير الذي تحياه الأمة عامة ، حيث يتجه أفرادها إلى الاهتمام بالمظاهر البراقة عوض الانصراف إلى بناء الجوهر الأصيل .
و إن أسفنا ليزداد يوم أن نعلم أن كثيرا من الجهود المخلصة التي تسعى إلى إيجاد خطاب حقيقي جاد للمرأة تتعثر في سيرها ، أو تلفظ أنفاسها في منتصف الطريق قبل أن توفي إلى غايتها لأنها جهود فردية لا تحظى بالدعم الكافي الذي يكفل لها مواصلة الطريق ، كما أنها بتبنيها الجدية في الطرح لا تقبل إعلانات الشركات العالمية المنتجة للعطور و الأزياء التي تدفع الملايين نظير إعلانات لها في الصحف الأخرى .

إنها مغامرة صعبة فعلا ، و خطيرة و غير مضمونة ، و لكنها جديرة بأن تخاض و يركبَ غمارها المخلصون من أبناء الأمة الذين يحرقهم الشوق إلى الرفعة و السؤدد ! و قديما قال الشاعر :
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى      فما انقادت الآمال إلا لصابر

هي دعوة نتوجه بها إلى العقلاء من أصحاب رؤوس الأموال ، و إلى المصلحين الغيورين من أصحاب النفوذ و أرباب الفكر ، من أجل السعي إلى إيجاد منابر ثقافية تعلي من شأن المرأة كما جاء في الإسلام الحنيف ، و تطرق المهمل من قضاياها المهمة التي ضيعها الجهل بالدين ، و التبعية الحمقاء التي يتبناها أناس محسوبون على الفكر و الثقافة ، و - قبلها - محسوبون على الأمة !

الجمعة، 14 أكتوبر 2011

جورج جالاوي: أنا فلسطيني.. أنا عراقي.. أنا مسلم !!


أن يعلن شخص ما في الوطن العربي كرهه وعدواته للصهيونية والإمبريالية وينتقد في العلن إسرائيل أو أمريكا ، فليس ذلك بعجيب ، إنما المثير للدهشة أن يفعل ذلك رجل في الغرب .. والأكثر إثارة للدهشة أن يكون نائبا في البرلمان البريطاني ، أي أنه أحد الساسة في البلد الذي أعطى وزير خارجيته يوما وعدا للصهيونية العالمية بأن تنشئ وطنا قوميا لها في فلسطين ..
هذا الرجل ، يقول في مقابلة تلفزيونية أجريت معه في بريطانيا: (هنا ارتُكبَتْ الجريمة الأولى ضد فلسطين يوم وعد (بلفور)، عندما انتزع شعبٌ من شعبٍ آخر أرضَه وأعطاها لشعب ثالث دون أن يستشير الشعوب المعنية بها. هناك دم فلسطيني على الأيدي البريطانية ويجب أن يتوقف، ولذلك نحن نطالب بحظر أسلحة ضد إسرائيل.. يجب ألاّ نبيع أسلحة بريطانية إلى القتلة من أمثال حكومة الجنرال شارون )..
أكثر من هذا أنه في عام 1994 ظهر في بغداد على شاشة التلفزيون العراقي، وألقى خطابا طويلا أمام الرئيس صدام حسين وكبار مساعديه قال فيه: (سيدي، إنني أحيي شجاعتك، وقوتك، ومثابرتك، وأريدك أن تعرف يا سيدي أننا معك حتى النصر.. حتى القدس)!!
إنه جورج جالاوي، البرلماني البريطاني الأنيق دائما والمثير للجدل !
********************
في بريطانيا –بعيدا عن أجواء السياسة– يلقب جورج جالاوي بـ"جورج الفاتن"، بسبب أناقته البالغة، وذوقه الراقي في اختيار ألوان ملابسه، وحياته العاطفية البالغة الإثارة.. وفي الوطن العربي يعرفه الناس بأنه نصير القضايا العربية وعدو الإمبريالية والصهيونية.. أما في أمريكا فهو النائب البريطاني الذي يقلي الشيوخ الأمريكين في النفط، بحسب عنوان ملفت للغاية ظهر في صحيفة (نيويورك بوست) الأمريكية في الثامن عشر من مايو المــاضي عقب مرافعته عن نفســه في مبنــى الكونجــرس الأمريكي (كابيتول هيل)، ضد اتهام وجهته له السلطات الأمريكية بتلقي رشاوى من نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين نظير بعض التسهيلات والتجاوزات في برنامج النفط مقابل الغذاء.
اصر جورج جالاوي على أن يحارب أمريكا في قعر دارها وأن يرد لها الصاع صاعين، فذهب إلى أمريكا مختارا دون إرغام من أحد ليمثل للمحاكمة ، لكنه تحول بعد مرافعة جريئة مليئة بالتحدي إلى رمز جديد لمؤيدي الحركة المناوئة للحرب في أمريكا كما يقول السير سيريل تاونسيند.
وفي مرافعته المتلفزة تلك أمام لجنة فرعية في مجلس الشيوخ الأميركي يرأسها السيناتور الجمهوري (نورمان كولمان) ومكلفة بالتحقيق في قضية برنامج النفط مقابل الغذاء قال جالاوي بصوت ملؤه الثقة والتحدي: (إنكم تحاولون صرف الأنظار عن الجرائم التي ارتكبتموها وعن سرقة مليارات الدولارات من ثروة العراق.. ألقوا بنظرة على فضيحة النفط مقابل الغذاء الحقيقية. ألقوا بنظرة على الأربعة عشر شهرا التي كنتم فيها المسؤولين عن بغداد. تلك الأربعة عشر شهرا الأولى التي لا يعرف فيها مصير 5.5 مليار دولار من ثروة العراق فُقدت أثناء توليكم المسؤولية هناك. ألقوا بنظرة إلى (هاليبيرتون) وغيرها من الشركات الأميركية الكبرى التي لم تكتف بسرقة أموال العراق، ولكنها قامت بسرقة دافعي الضرائب الأميركيين أيضا)!!
كان واثقا من نفسه، إلى الحد الذي جعل أعضاء اللجنة الثلاثة عشر يبدون مرتبكين من كلامه لاسيما بعد أن أدركوا أنهم لم يقدموا أي وثيقة تشير إلى إدانته، فما كان منه إلا أن قال بقوة ألجمت ألسنتهم: (ليس لديك شيء ضدي أيها السيناتور.. ليس لديك سوى اسمي موضوعا وسط قوائم أسماء وردت إليكم من العراق، ومعظمها تم إعداده بعد تنصيب حكومتكم العميلة هناك). وعندما أشاروا إلى أنه التقى صدام حسين قال بهدوء: (لقد قابلت صدام حسين نفس عدد المرات التي قابله إياها رامسفيلد. الفرق بيني وبينه، أن رامسفيلد قابله كي يبيعَه مدافع ولكي يعطيه خرائط تساعده على التصويب الدقيق لتلك المدافع. أما أنا فقد قابلته في إطار محاولتي لوضع حد للعقوبات والمعاناة والحرب)..
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتهم فيها جالاوي بتلقي رشاوى ، بل سبقتها مزاعم نشرتها صحيفة (الديلي تليجراف) البريطانية المحافظة على لسان مراسلها في بغداد (ديفيد بلير) وتلقفتها بالتبعية صحيفة (كريستيان ساينس مونيتور)، هذه المزاعم بشأن العثور على وثيقة في مخلفات وزارة الخارجية العراقية تشير إلى أن جالاوي حصل من خلال طارق عزيز على عمولات بيع ثلاثة ملايين برميل نفط كل ستة أشهر، بموجب برنامج النفط مقابل الغذاء، يقدر ثمنها بـ375 ألف جنيه استرليني سنويا، ليتضح فيما بعد أن الوثيقة مزورة وأنها مؤامرة ضد الرجل، فقد قالت جريدة (كريستيان ساينس مونيتور) في سياق اعتذار نشرته على صفحة كاملة للنائب البريطاني إن تحليلا كيميائيا أثبت أن المستندات مزورة وتعود إلى فترة ما بعد سقوط بغداد وأنها لم تحرر قبل سنوات كما ادعى أصحابها في جريدة (الديلي تليجراف) ، وليكسب جالاوي بعدها قضية التشهير التي رفعها ضد الأخيرة التي أبت أن تعتذر، ويحصل منها على مبلغ 150 ألف جنيه إسترليني.
إن هذا الرجل –كما هو واضح من تصريحاته في أكثر من محفل– يحمل مبدأ ثابتا لا يحيد عنه ، وهو يضع مبدأه هذا نصب عينيه في كل مايأتي ويذر. فمن ثَمَّ نجده ينتقد رجال السياسة في بلده بعنف ودون حرج إن رآهم مجانبين للصواب، على أن من المهم أن نشير إلى أنه يفعل ذلك بدافع من حبه العميق لبلده. ففي لقاء مع إحدى القنوات الفضائية العربية شبه العلاقة بين توني بلير وجورج بوش بالعلاقة بين كلينتون ومونيكا لوينسكي، فقال له المذيع: ألا تعتقد أن هذا قصف أو وصف قاسٍ بشكل كبير..؟! فأجاب: يجب أن تفهم أنني أحب بلدي وأنا أشعر بالعار من دورها في هذا الوقت، أنا أحب بلدي وأحب ثقافتها وديمقراطيتها وتاريخها السيء والحسن، كنا دولة عظمى والآن تقزمنا.. أنا لا أقول مثل هذا الكلام لأنني أكره بلدي، بل لأنني أحب بلدي، وأكره ما تفعله..!!
إنه يحب بلده بريطانيا لكنه يحب أكثر دولة الحضارة التي تستند إلى الاحترام لكل الشعوب، ويحب الشعوب الأصيلة التي تتكئ على الأخلاق الفاضلة، ويحب القيادة القوية التي تنبني على العدل ورفض الطغيان، ولذا نراه يقول بصراحة وتلقائية في أحد الحوارات التلفزيونية على الهواء موجها حديثه للعرب وقد عاين الظلم والذل والقهر الذي حل بهم: (في بريطانيا حدث ذعر عندما زاد سعر النفط عشرين بنسا بسبب التخوف من الحرب ضد العراق، ماذا لو قال العرب لا يوجد نفط؟ لن نبيعكم نفطا ولن نشتري شيئًا منكم إلى أن يُحرر الفلسطينيون من هذه الانتهاكات الشنيعة التي يتعرضون لها يوميًا، هذا ما أريد أن أسأله العرب، أنا أفعل ما بوسعي هنا وفي بطن الوحش أحارب هؤلاء الذين يعطون السلاح لإسرائيل ويعاقبون العرب في كل مناسبة، ولكن العرب عليهم أن يفعلوا شيئًا أيضًا بأنفسهم.. لا ينفع أن نلوم الأميركان والإنجليز واليهود.. ).
ويضيف أيضا بمنتهى الشفافية والوضوح: (أقول للمستمعين العرب: قبل خمسين سنة كانت أوروبا تتقاتل فيما بينها، وتقتل بعضها بمئات الملايين، ونحن نتكلم لغات عديدة جدًا، عندنا اثنا عشر دينًا، ولا يمكننا التفاهم مع بعض، ولكننا نبني اتحادًا من الشعوب الأوروبية، تصور اتحادًا بين الشعوب العربية مثل الاتحاد الأوروبي، كيف سيُغير هذا العالم العربي؟ Description: up)
هذا الكلام جعل أحمد منصور المذيع في قناة الجزيرة يقول: أنا مصاب بصدمة لأني لم أتخيل إلى الآن أن أسمع هذا الكلام من عضو في البرلمان البريطاني!! في حين اختار مصطفى بكري رئيس تحرير جريدة الأسبوع المصرية أن يقول: (يا سيد جالاوي أنت عربي أكثر منا والله، قل لأصدقائك الذين وقفوا ضد تابع أميركا (توني بلير): أنتم العرب الحقيقيون.. يا سيد (جالاوي) نحن أمة عظيمة لكنهم يريدوننا نعاجًا تساق إلى الذبح، ولكن ثق يا أخي أن لحظة ما في عمر الزمن سوف تأتي وسوف ننتصر وتعود إلينا فلسطين.. والله يا أخي أنت أشعرتنا فعلاً بأننا أمة تستحق بالفعل أن تُباد إن لم تتحرك دفاعًا عن كل شيء..)!! فلا يجد جالاوي ليرد أحسن من أن يقول: (العرب أمة عظيمة يستحقون قيادة عظيمة).
الجدير بالذكر أن جالاوي طرد من حزب العمال في أكتوبر 2003 بسبب اتهامه توني بلير وبوش بأنهما "تصرفا كالذئاب" عندما قاما بغزو العراق ، ليؤسس بعدها حزبا يساريا أسماه (ريسبيكت) –التي تعني في العربية الاحترام- بقصد محاربة التبعية البريطانية لأمريكا، حيث استطاع هذا الحزب الذي يضم خليطا من مختلف التوجهات الدينية والعرقية ترشيح مرشح مسلم للبرلمان الأوربي يدعى (أنس التكريتي) لكنه فشل في الحصول على الأصوات الكافية لدخول البرلمان نتيجة للدعاية المضادة العنيفة ضد جالاوي وحزبه ومرشحه المسلم.
بعد كل هذا ربما يبدو للبعض أن مناصرة جالاوي لقضايا العرب والمسلمين ، إنما هي من باب حب الشهرة والرغبة في التمجيد الشعبي العربي له فقط، لكن المتأمل لكثير من أقواله وأفعاله يتضح له بجلاء أن الرجل صاحب قضية ومبدأ حر، وأن عنصر الخير الذي هو فطرة في الإنسانية جمعاء ينتفض بقوة في حناياه ..
فإن قال ذات يوم في مؤتمر بأمستردام على هامش نشاطاته في مناهضة العدوان الأنجلو أمريكي على العراق، بكل قوة من باب التضامن: أنا فلسطيني، أنا عراقي، أنا مسلم، فإن ذلك ليس بعجيب على الإطلاق!

جالاوي في سطور
-           وُلد في مدينة (داندي) في (اسكتلندا) عام 1954.
-           درس في كلية ( هاريس ) وعمل بستانيا في حديقة بعد أن أنهى دراسته الثانوية ، ثم في شركة لصناعة عجلات السيارات ، وحينئذ بدأ حياته السياسية في حزب العمال .
-           أصبح منسقا عاما لأنشطة حزب العمال في اسكتلندا عام 1977 ثم في عام 1980 رئيسا لفرع الحزب في اسكتلندا .
-           الأمين العام لهيئة مكافحة الحرب ضد الحرمان خلال الفترة 1983 – 1987 .
-           ممثل عن حزب العمال في الفترة ( 1987 – 1997 ) عن منطقة (هيلهد) ، ثم نائب عن(جلاسكو) من العام 1997  حتى الآن.
-           نائب رئس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان البريطاني عن حزب العمال، ورئيس اللجنة البرلمانية للصداقة بين بريطانيا والبرتغال ورئيس المنتدى البريطاني-العراقي ، ومنسق لجنة الطوارئ الخاصة بالعراق وفلسطين.
-           تزوج جالاوي من إيلين فايف عام 1979 وأنجب منها طفلة ثم طلقها عام 1999 وتزوج في العام التالي من أكاديمية فلسطينية مسلمة هي الدكتورة أميرة أبو زياد التي رفعت عليه دعوى طلاق متهمة إياه بالخيانة طيلة علاقتهما الزوجية .
-           يكتب مقالاً أسبوعيًا في صحيفة (ميل أون صنداي) ومعروف بمواقفه المؤيدة لقضايا فلسطين والقضايا العربية.
-           بدأ جالاوي يلفت النظر إليه منذ عام 1974 بسبب دعمه للقضية الفلسطينية، وبسبب تعليقاته المنتقدة للسياسة الخارجية البريطانية إزاء ليبيا وباكستان وإيران والعراق .

الأحد، 9 أكتوبر 2011

إن القوم يحتكرون!!


من الأمور البدهية أن أي جهة تنوي تنظيم فعالية ما، فردا كانت أو مؤسسة، فإنها ستنظر إلى البارزين من أصحاب العلاقة والخبرة بتلك الفعالية لإحكام التنظيم وضبط الأفكار وضمان حسن سير العمل. البارزون طبعا: هم الذين بَرَّزَتْ بهم أعمالهم من تنظيم لفعاليات مشابهة ومشاركات واسعة عبر سنوات متوالية جعلتهم في الأذهان، لا الذين يقولون صراحة إننا الأفضل فانظروا إلينا..

مع ذلك تعجب لغرابة تفكير بعض الناس الذين ينتمون إلى موضوع تلك الفعالية حين يخرجون ساخطين يقولون: إن القوم يحتكرون!..
يبررون سخطهم بأن الوجوه تتكرر وأنهم في الهامش من كل مشروع.. تعجب لسخطهم حين تعلم أن عطاءهم في الموضوع قليل أو غير ناضج، وأنهم لم يحدثوا أنفسهم يوما بالإمساك بزمام المبادرة، وبينما هم ينتظرون أن يساق إليهم الخبر على طبق من ذهب ليستشاروا أو ليكونوا أعضاء في لجان التنظيم أو المشاركة، ينهض الآخرون بأفكار رائدة لمشاريع عظيمة، ويسعون بأنفسهم إلى كل الجهات لتقديم أفكارهم ورؤاهم.. ومن الطبيعي جدا أنه إذا تكرر كسل الأولين وتكررت مبادرات الآخرين، فإن الوجوه ستتكرر.. وحينئذ ينتفض هؤلاء ليقولوا قولتهم المأثورة: إن القوم يحتكرون !!

ويزداد عجبك أكثر حين تعلم أنهم يملكون الإمكانات المادية، وحين تسمع حديثهم عن أنفسهم بأنهم أصحاب الفكر المتجدد وأن لديهم من الإمكانات الفنية ما يساوي أو يزيد على ما يملكه الآخرون، ثم لا ترى منهم حركة جادة لتحريك ساكن المشهد الذي ينتمون إليه.. فتتذكر حينها قول الحكيم: (إن العاصفة تستطيع أن تقتلع مدينة لكنها لا تستطيع أن تحل عقدة خيط)!!

فهل يوجد عاقل في الدنيا يعتقد أن فلانا من الناس (مثلا) يحتكر الكلام لأنه (أي الأول) أبكم أو لا يجيد فن الكلام أو يدمن الصمت منكبّاً على نفسه؟ وهل في الدنيا عاقل يقول إن فلانا يحتكر السفر لأنه (أي الأول) لايفكر في السفر مطلقا؟.. مع ملاحظة أن (فلانا) المتهم بالاحتكار يتكلم بفمه ولا يستعير أي لسان، ويدفع تكاليف سفره من ماله الخاص !!

ثمة أسئلة كثيرة ينبغي أن يطرحها هؤلاء على أنفسهم عوض اتهام الآخرين جزافا بتهم جاهزة معلبة كهذه: هل أنت صاحب معرفة حقيقية أو مشروع جاد؟ هل منعت من التفكير والابتكار والمبادرة إلى مشاريع مماثلة؟ أليس من حق صاحب أي مشروع ان يختار من يشاء: مشرفا عليه أو عضوا منظما فيه أو عضو مشاركا؟..

نصيحتي لهؤلاء إن كانوا أصحاب مشاريع جادة أن يمسكوا بزمام المبادرة، و أن يتفاعلوا مع كل الأجيال القديمة والحديثة لأخذ خبرات مجتمعة، و أن يرسموا صورة اخرى مغايرة لمشهدهم، و أن يحددوا أهدافهم بوضوح حتى لا يحسبون أنفسهم على شيء بينما هم واقعون في عبث فارغ، وقديما قال الحكيم: (إذا لم تكن تعرف أين تذهب، فكل الطرق تؤدي إلى الهدف)!

الجمعة، 30 سبتمبر 2011

أنا أحب وطني.. أنا مسجون !!


هذا رجل بريء ونزيه ..
ملامحه لا توحي أبدا بغير معاني الخير والحب والرحمة ، وحديثه عذب لطيف لا يمل، فهو أستاذ مثقف ومحاضر رائع في الجامعة، وهو إلى ذلك على مستوى جيد من الخبرة والدراية بأمور الحياة!!
لكنه مسجون!!
أسأله عن السبب، فيقول: (لأني أحب الوطن)،  (لأنك تحب الوطن !!).. أقولها مندهشا، فيؤكد الجواب لي بإيماءة من رأسه وهو يبتسم، أحاول أن أصلَ به إلى سبيل غير الذي هو فيه ولكنه لا يرضى، وكأنما سلَّم بالأمر..
إنه مسجون لأنه يحب وطنه، ويحيا من أجله وعزته ورفعته، ويبذلُ في سبيل ذلك من جهده وماله الغالي والثمين..
رجل من طراز عجيب في زمن تفاجئنا فيه العجائب يوما بعد يوم!!

لقد سجن نفسه !
لقد قرر بنفسه مصيره ، واختار لنفسه هذا المكان . تلقى عروضا كثيرة ليخرج ولكنه أبى ، وقال إنه السم في العسل . كان يمكن أن يحظى بوضع أفضل لو أنه هاجر إلى بلد من بلدان الغرب وقضى فيه ما تبقى له من العمر لينعم بحياة مترفة يستحقها أمثاله ممن يعملون بجد وإخلاص وتفانٍ ، ولكنه كان دائما يؤثر البقاء .
أستاذٌ عراقي ، جلستُ إليه حين سمحَ الزمان ذات صباح جميل . أقبل علينا مفعما بالنشاط والحيوية لإلقاء محاضرة في فن الإدارة ، وأخذنا نتحدث . يقول : ( تلقيت عروضا كثيرة للهجرة إلى بلدان الغرب ، وقال لي بعض أصدقائي إنهم سيتدبرون أمر حصولي على الجنسية هناك ، وإن أوضاعي المعيشية ستتحسن كثيرا ، ولكني – رغم ذلك كله – آثرت البقاء في إحدى بلدان وطني العربي . إنهم يغرقوننا بالأموال هناك ، ليس لسواد أعيننا وحبهم لنا ، ولكن لما نحمله من علم . إنهم يستحوذون بأموالهم ياسيدي على الطاقات العربية المنتجة ليقيموا بنيان حضارتهم ، فيما يخسر الوطن العربي هذه الثروة بسبب أوضاعه المتردية في السياسة والاقتصاد وغيرها)..
رشف بقية فنجان القهوة العربية بتلذذ ، وقال : ( أعلم أن أوضاعي ستتحسن هناك ) ثم وهو يبتسم (ولكن ماذا أفعل؟.. أنا رجل مسجون بحب الوطن !!)
تأملت في حال هذا الأستاذ الكريم الذي صيّره حبه الكبير لوطنه وأمته مسجونا في إطار موطنه العربي فحسب ، فأيقنت أن بعض السجن جنة وحرية وفضاء واسع لإبداع رائع ، وأن هذا السجن هو المبدأ الذي ينبغي أن يحمله المثقفون والعلماء العرب !..
إن ( السجن ) هنا كلمة مستعارة ليس يعنينا منها إلا الحدود التي ترسم الحركة ضمن إطار معين لا يمكن تجاوزه إلى غيره .. إنها استعارة تقترب من قول المتنبي حين قال ذات يوم : ( وقيدت نفسي في هواك محبة  ،،،  ومن وجــد الإحســان قيدا تقيــدا ) ..
نعم ، إن هذا السجن هو الحب الذي يقيد الإنسان عن الحركة خارج دنياه ، ولا يسمح له بالحركة إلا في العوالم التي تنطق كل جنباتها بحروف الحب ومعانيه. وقد قيَّد هذا الأستاذَ حبُّه لموطنه وإخلاصُه لدينه وأمته ، فأكرم به من حب ، وأحبب به من قيد !

السجن ضرورة !
نحن في الواقع أشد ما نكون حاجة إلى هذا السجن الذي يدفع بنا إلى أن نوجه كل علومنا ومعارفنا وخبراتنا نحو خدمة موطننا العربي باعتبار ذلك الهمَ الأول . نحن بحاجة إلى هذا الوعي المهم الذي يلغي الحدود التي وضعها بيننا الاستعمار البغيض ، ويتوجه بنظرة واحدة إلى كل بقعة في هذا الوطن الكبير . فليس مهما أن يبدع العالم المصري في مصر بقدر أهمية أن يكون نتاجه العلمي مسجلا في أرض عربية ، وليس معيبا أن يكون للعراقي دور في النهوض بالثقافة في بلد عربي غير العراق ،  وليست خسارةً أن يكون للعماني استثمارات في غير عمان من بلدان الوطن العربي..
إنه الفكر الذي نريده ، ونبحث عنه .. فكر يبتعد بنا عن الإقليمية الضيقة والنعرات الطائفية أو المذهبية وغيرها .. فكرٌ يحاكم نفسَه وفق المبادئ التي أرساها الدين الحنيف والمصلحون المخلصون من بعد ، ويجعل شعاره الأبدي : ( معا من أجل وطن عربي موحد وقوي ).
إن وجود العقول العربية على أرض الوطن العربي مهم جدا وينبغي أن يحرص عليه ويسعى من أجله صناع القرار ، فهذه الكوادر هي الثروة الباقية التي لا تنضب ، وهي السلاح الفعال في مواجهة قوى الاستعمار والاحتكار .
على أن الحرص على بقاء هذه العقول داخل الوطن لا ينبغي – بأي حال من الأحوال – أن يكون عن طريق القهر والجبر ، فلن يتحقق إبداع يظلله القهر والطغيان ، ولن ينفعَ علمٌ تسوقه عصا الجبر والكبت . بل يجب أن يكون ذلك بتوفير البيئة الجاذبة ، التي تعني – بإجمال – توفيرَ الحماية والرعاية في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية وغيرها .
من ناحية أخرى ، ينبغي أن يتحلى أربابُ هذه العقول بقليل من الصبر والرضا والقناعة وكثير جدا من الوعي عند عدم وجود الحوافز المعيشية المشجعة ، فالخسارة الناشئة عن وجودهم ضمن واقع  غير مرضٍ ربما تكون خسارة غير كبيرة لكونها تنال ذواتهم الفردية، في حين أنه من المؤكد فداحةُ الخسارة الناشئة عن هجرتهم إلى دول الغرب لأنها تمس الذات المجتمعية .

عقول هاربة
تكشف تقارير الأمم المتحدة والجامعة العربية وإحصاءات بعض الأجهزة الرسمية في البلدان العربية عن أرقام خطيرة لهجرة العقول العربية ، وهو أمر يكشف بجلاء عن أهمية ما ندعو إليه – فيما سبق – أصحاب القرار من ناحية ، و العلماء والمثقفين العرب من ناحية أخرى .
يشير تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية في الوطن العربي (2003) إلى أن عام 1996 شهد هجرة 25% من أصل 300000 من خريجي الجامعات العربية إلى أمريكا الشمالية ودول السوق الأوربية، و إلى أنه بين عامي 1998 و  2000 غادر أكثر من 150000 طبيب عربي للخارج ، وقد أدى ذلك وغيره من هجرة العقول إلى خسارة للدول النامية بسبب كل ما أنفقته على تعليم هؤلاء تصل إلى 42 مليار دولار ، في مقابل وفرة تبلغ 1.8 مليار دولار حققتها أمريكا في الإنفاق على التعليم.
وتشير بعض التقارير إلى أن هجرة العقول العربية إلى الولايات المتحدة وكندا وبعض الدول الأوروبية تتسبب في خسائر مالية للوطن العربي تقدر بأكثر من 200 مليار دولار سنويا .
وفي مصر وحدها ، تقدر بعض الأجهزة الرسمية عدد العقول المصرية المهاجرة بنحو 824 ألفا بحسب إحصاء صدر في عام 2003 ، من بينهم 2500 عالم .
وفي تقارير لجامعة الدول العربية ومنظمة العمل العربية وبعض المنظمات المهتمة بهذه الظاهرة تشير الإحصاءات الى ان الوطن العربي يساهم بـ 31% من هجرة الكفاءات من الدول النامية، وأن 50% من الاطباء، و 23%من المهندسين، و 15% من العلماء من مجموع الكفاءات العربية يهاجرون متوجهين الى الولايات المتحدة وأوروبا وكندا بوجه خاص وأن 5.4% من الطلاب العرب الذين يدرسون بالخارج لا يعودون الى بلدانهم .
ويقول بعض الباحثين إنه في حين تخسر الدول العربية من ظاهرة هجرة العقول فإن اسرائيل تستفيد منها بفعل الهجرة عالية التأهيل القادمة اليها من شرق أوروبا وروسيا وبعض الدول الغربية . و ما يضاعف الحسرة والألم ويثبت خطورة هذه القضية هو أن عدداً من هؤلاء يعملون في أهم التخصصات الحرجة والاستراتيجية مثل الجراحات الدقيقة، والطب النووي والعلاج بالاشعاع والهندسة الالكترونية والميكرو الكترونية، والهندسة النووية، وعلوم الليزر، وتكنولوجيا الانسجة والفيزياء النووية وعلوم الفضاء والميكروبيولوجيا والهندسة الوراثية ، هذا فضلا عن العلوم الانسانية كاقتصاديات السوق والعلاقات الدولية .
إن هذه الحقائق المذهلة تستوجب منا التفكير والتأمل والتدبر في هذه القضية . فإذا كان من الحق أن نوجه اللوم الشديد على الحكومات وصناع القرار بسبب عدم توفير المناخ الجاذب لهذه الكوادر المؤهلة ، فإن من الحق أيضا أن نوجه جانبا غير قليل من هذا اللوم إلى أرباب هذه العقول ، فإن العلم إذا لم يصُنْه المبدأ الأصيل ينقلب وبالا على البلاد والعباد .

ينبغي لحبك أن يقيدني !
يقولون إن المرأة تستعذب قيد الحب فتستسلم له طائعة ، بينما الرجل ينفر من القيود وكثيرا ما تأتي محاولاته للخلاص متأخرة جدا . لكننا هنا لا نتحدث عن الحب بين رجل وامرأة لا يجدان في الحب إلا قيدا يحد من حريتهما ، ولسنا معنيين أكثر بالقيد كما يفهمه السجان أو رجل الأمن . نحن نتحدث عن القيد الذي يجعل الأبواب مشرعة على فضاء واسع من الحرية..
هل يمكن أن يكون القيد مفتاحا للحرية؟؟
نعم ، فحتى الحرية لا بد أن تكون مؤطرة ضمن حدود تنتظم فيها معالمها وتستبين لكل باحث عنها. والحرية التي نتحدث عنها هنا هي التي تأتي نتاجا للمبدأ الحر . هل يمكن أن يكون المبدأ سجنا أو قيدا ؟ .. بالطبع كلا !.. فالالتزام بفكر محدد ورأي ثابت في شأن من الشؤون وعدم الحيدة عنه إلى ما سواه لايعني أبدا كبتا للحرية ، بل هو الفهم الكامل الأعمق لمفهوم الحرية.
و إذن فينبغي لحبك يا وطني أن يقيدني ..
بهذا المنطق ينبغي أن يفهم القارئ الكريم حديثنا هذا كله ، وبه أيضا ندعو إلى القيد والسجن !!

كلمة أخيرة

وهاك يديّ فَقَيّدْهُما ،،، بحبك وليَدُم أسري

السبت، 10 سبتمبر 2011

المقدمة الشاعرة


أعيش هذه الأيام بعض أجواء المعارك الأدبية التي كانت تجري بين أدباء مصر في النصف الأول من القرن المنصرم .. وفي كتاب (على السفود) للرافعي أثبت مراجعُ الكتاب المقدمة التي كتبها الرافعي العظيم لديوانه عام (1904 م)، وفيها ذكر أسماء عدد من شعراء العربية القدامى وما اشتهروا به من موضوعات الأشعار.. ذكر ذلك بلغة الأديب المتفنن واقتدار العالم المتمكن. قال الشيخ إبراهيم اليازجي عن هذه المقدمة(... ذهب فيها مذهبا عزيزا في البلاغة, وتبسط ما شاء في وصف الشعر وتقسيمه وبيان مزيته في كلام تضمن من فنون المجاز وضروب الخيال ما إن تدبرته وجدته الشعر بعينه).
**
أترككم مع جزء من هذه المقدمة البديعة !
**
" قُصدت القصائد على عهد عبد المطلب أو هاشم بن عبد مناف وهناك رفع امرؤ القيس ذلك اللواء وأضاء تلك السماء التي ما طاولتها سماء، وهو لم يتقدم غيره إلا بما سبق إليه مما اتبعه فيه من جاء بعده، فهو أول من استوقف على الطلول ووصف النساء بالظباء والمها والبيض وشبه الخيل بالعقبان والعصي وفرق بين النسيب وما سواه من القصيدة وقرب مآخذ الكلام وقيد أوابده وأجاد الاستعارة والتشبيه؛ ولقد بلغ منه أنه كان يتعنت على كل شاعر بشعره.

ثم تتابع القارضون من بعده فمنهم من أسهب فأجاد، ومنهم من أكب كما يكبو الجواد، وبعضهم كان كلامه وحي الملاحظ وفريق كان مثل سهيل في النجوم يعارضها ولا يجري معها، ولقد جدوا في ذلك حتى أن منهم من كان يظن أن لسانه لو وضع على الشعر لخلقه، أو الصخر لفلقه.

ذلك أيام كان للقول غرر في أوجه ومواسم بل أيام كان من قدر الشعراء أن تغلب عليهم ألقابهم بشعرهم حتى لا يعرفون إلا بها كالمرقش والمهلهل والشريد والممزق والمتلمس والنابغة وغيرهم؛ ومن قدر الشعر أن كانت القبيلة إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك وصنعت الأطعمة واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس. وأيام كانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتج. وكانت البنات ينفقن بعد الكساد إذا شبب بهن الشعراء.

ولم يترك العرب شيئا مما وقعت عليه أعينهم أو وقع إلى آذانهم أو اعتقدوه في أنفسهم إلا نظموه في سمط من الشعر وأدخروه في سفط من البيان حتى أنك لترى مجموع أشعارهم ديوانا فيه من عوائدهم وأخلاقهم وآدابهم وأيامهم ما يستحسنون ويستهجنون حتى من دوابهم.

وكان القائل منهم يستمد عفو هاجسه وربما بلفظ الكلمة نحسبها من الوحي وما هي من الوحي ولم يكن يفاضل بينهم إلا أخلاقهم الغالبة على أنفسهم. فزهير أشعرهم إذا رغب، والنابغة إذا وهب، والأعشى إذا طرب، وعنترة إذا كلب، وجرير إذا غضب، وهلم جرّا.

ولكل زمن شعر وشعراء ولكل شاعر مرآة من أيامه فقد انفرد امرؤ القيس بما علمت واختص زهير بالحوليات واشتهر النابغة بالاعتذارات وارتفع الكميت بالهاشميات وشمخ الحطيئة بأهاجيه وساق جرير قلائصه وبرز عدي في صفات المطية وطفيل في الخيل والشماخ في الحمير، ولقد أنشد الوليد بن عبد الملك شيئا من شعره فيها فقال ما أوصفه لها إني لأحسب أن أحد أبويه كان حمارا.. وحسبك من ذي الرمة رئيس المشبهين الإسلاميين أنه كان يقول" "إذا قلت كأن ولم أجد مخلصا منها فقطع الله لساني" ولقد فتن الناس ابن المعتز بتشبيهاته، وأسكرهم أبو نواس بخمرياته، ورقت قلوبهم على زهديات أبي العتاهية وجرت دموعهم لمراثي أبي تمام وابتهجت أنفسهم بمدائح البحتري، وروضيات الصنوبري ولطائف كشاجم. فمن رجع بصره في ذلك وسلك في الشعر ببصيرة المعري وكانت له أداة ابن الرومي وفيه غزل ابن أبي ربيعة وصبابة ابن الأحنف وطبع ابن برد، وله اقتدار مسلم وأجنحة ديك الجن ورقة الجهم وفخر أبي فراس وحنين ابن زيدون وأنفة الرضي وخطرات ابن هانئ، وفي نفسه من فكاهة أبي دلامة ولعينيه بصر ابن خفاجة بمحاسن الطبيعة وبين جنبيه قلب أبي الطلب فقد استحق أن يكون شاعر وصناجة عصره. وأبرع الشعراء من كان خاطره هدفا لكل نادرة فربما عرضت للشاعر أحوال مما لا يعني غيره فإذا علق بها فكره تمخضت عن بدائع من الشعر فجاءت بها كالمعجزات وهي ليست من الإعجاز في شيء ولا فضل للشاعر فيها إلا أنه تنبه لها، ومن شديده على هذا جاء بالنادر من حيث لا يتيسر لغيره ولا يقدر هو عليه في كل حين. وليس بشاعر من إذا أنشدك لم تحسب أن سمعه مخبوء في فؤادك وأن عينيك تنظر في شغافه، فإذا تغزل أضحك إن شاء وأبكاك إن شاء وإذا تحمس فزعت لمساقط رأسك. وإذا وصف لك شيئا هممت بلمسه حتى إذا جئته لم تجده شيئا، وإذا عتب عليك جعل الذنب لك ألزم من ظلك، وإذا نثل كنانته رأيت من يرميه صريعا لا أثر فيه لقذيفة ولا في نفسه وكأنما استقر على جمر وإذا مدح حسبت الدنيا تجاوبه وإذا رثى خفت على شعره أن يجري دموعا وإذا وعظ استوقفت الناس كلمته وزادتهم خشوعا وإذا فخر اشتم من لحيته رائحة الملك فحسبت إنما حفت به الأملاك والمواكب.

وجماع القول في براعة الشاعر أن يكون كلامه من قلبه، فإن الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان."


الاثنين، 5 سبتمبر 2011

قمري الجميل


قومي انظري إلى القمر

يقومُ كلَّ ليلةٍ في مجلسِ المساءْ

يُقَلِّبُ النظرْ

يَخْطُبُ في معاشرِ النجومْ

ويبعثُ الضياءْ

في الأرضِ والسماء

لكنّه

إن طلع الفجرُ اختفى،

فلا أَثَرْ

وأنتِ في سمائي

قمري الجميلْ

يمضي معي

في دربي الطويلْ


أَطْلَعْتُه

في قلبي المشغوفِ بالحبِّ ،

و لن يغيبْ

و ساحَ بي

في كل ركنٍ طاهرِ

و راحَ بي

في كل أُفْقٍ ساهرِ

وجاء بي ، وسارْ ..

و حَطَّ بي ، و طار ..

و لست أدري ..

أيَّ ميناءٍ أحبَّ أو مطار !

أدري بأني

كنتُ في كلِّ المحطّاتِ

من اللهِ قريبْ !!