الجمعة، 25 سبتمبر 2020

مشارق | (10)

 

(91)

يُتْبع الإنسانُ نفسَه هواها، ويمضي سادرا في غيه، غير عابئ بأنظمة أخلاقية ودينية وعرفية ورسمية تحكم الوسط الذي ينشط فيه، ولا يفتح لنفسه نافذة لمراجعة النفس وإصلاح ما هو عليه من الخطأ وإقامة نفسه على طريق صحيح معروف؛ كأنما خُلق عبثا، وتُرِك هَمَلا..

فإن استمر على ما هو فيه من التخبط والتيه؛ فإنه سيفاجأ -لا محالة- بنتائج مهولة لما يفعل، تأتي عليه من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب..

وإن صحا من غفلته؛ فربما يولد من جديد، وقد يولد الإنسان أكثر من مرة!!

 

(92)

لا ريب أن (التسول) حِرْفَةٌ تحتاج إلى مهارات عالية، فمن ثَمَّ لا يتحصَّل عليها أيُّ محتال. أرأيت كيف أن المتسول لا يَرِفُّ له جَفْن وهو يقابَل بالصدود والإنكار، ولا ينكسر له جناح وهو يسمع كلمة (لا) جوابا على سؤاله بـ (هل)، ولا يرتبك ولا يتلعثم وهو يقوم للناس عقب الصلاة في المسجد الممتلئ فيأتي بالأكاذيب طالبا من الناس المساعدة، مع علمه (أو توقعه على الأقل) أن في الناس من يرتاب فيه وأن فيهم من قد يكشف زيف ما يتقوَّلُ ويتصنَّع!

 

إن التسول داء عضال مزمن في نفس من يراه فرصة لكسب المال. لقد جف ماء وجوه المتسولين لكثرة ما أراقوه، وعميت عيونهم عن رؤية نظرات الاحتقار في عيون من سألوه، وصمت أسماعهم عن العتب والملامة والتقريع فكأن كل واحد منهم آلة خرساء أو دابة عجماء لم يلدها آدم ولا بنوه!!

 

(93)

عش لحظتك الراهنة: كاملة التفاصيل، تامة الأركان.

كن فيها بسمعك وبصرك وفؤادك، ولا تفكر كثيرا فيما سيأتي بعد..

وما يدريك،

فربما ما تخبطَّتَ فيه في لحظاتٍ ما؛ كان بسبب ما أنقصْتَه من العيش في لحظات سبقتها.

عش لحظتك الراهنة:

إن ذلك أدعى أن يَكْسِبَك حُسْن التأتي فيما وراءها..

 

(94)

بينما تكشف نار التجربة عن المعدن الأصيل لبعض الناس سريعا؛ فإنها تحتاج لوقت أطول حتى تكشف عن أصالة معدن غيرهم.

 

الناس مختلفون في مشاربهم وطبائعهم واستجاباتهم، وهم كالمحاليل لدى المختبريين، تختلف استجاباتها -في إطار فرضية التجربة- بحسب ما يُخْلط بها من محاليل الاختبار، فربما ظهرت نتيجة بعضها سريعا لأنها وافقت ما اختلط بها، وتأخرت نتيجة غيرها لأنها لم تختلط بعد بما يجانسها..

 

من المبكر جدا الحكم على الناس في بدايات التجارب. التكرار قرينة مهمة هنا، والصبر والحكمة أدعى للتي هي أقوم في النظر..

 

(95)

الصفات أو العادات التي طالما رأيت نفسك عَصِيّاً على التطبع بها أو المداومة عليها؛ لن تستقيم فيك بمجرد أمنيات حالمة أو نوايا مؤجلة، ولن تنهض مرة واحدة بمجرد قرار سريع مفاجئ..

إنها بنيان مرصوص: يقوم لَبِنةً لَبِنَة. وإذن؛ فإن عليك التحلي بزينتين:

قرار حازم: لتأخذ الخطوة الأولى باتجاه التغيير.

واصطبار عازم: في الانتباه لتصرفاتك في مواقف وتفاصيل صغيرة، بما يجعلك قادرا على توجيهها الوجهة التي تبني في نفسك الصفة أو العادة التي تريد.

 

(96)

العلو/ الوفرة/ البساطة/ الوضوح/ الحرية/ المحبة/ الإحسان.. وغيرها كثير؛ رموز إيجابية عالية تشتمل عليها (الطبيعة الجميلة)..

إنها رسول ورسالة من الله، لنتذكر ما ينبغي أن نكون عليه من عاطر السيرة وطاهر السريرة، وإيجابي المشاعر ومحكم الأفكار..

 

(97)

تضيق بالإنسان أحوال، وتشتد عليه أمور، حتى ليظن أنها النهاية التي ستأتي على أوله وآخره؛ ثم يكتب الله له الفرج مما هو فيه من حيث يحتسب أو لم يحتسب..

كان الله يمتحن سمعه وبصره وفؤاده..

أراد أن يكابد عبده المشقة فيشكره على الراحة، وأن يعرف قدر نعمته عليه فيتحدث بها بين سائر الخلق، وأن يكون في كل سرائه وضرائه متصلا به وحده، مؤمنا موقنا -مهما ارتبطت الأسباب بالخلق من حوله- أن الله بيده كل شيء، واحد لا شريك له..

 

(98)

لأمر ما قال الله جل جلاله في كتابه، وعظا للأبناء أن يَبَرُّوا والدِيهم: "ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما"؛ فإن الشيخ قد يضيق بما يفرح به الشاب من بريئ المباهج، ويُخَطِّئ غيره دون منطق واضح مستقيم، وينفذ خبراته وتجاربه القديمة في واقع مغاير قد لا يحتملها، وربما أحب أن يرى نفسه طفلا في عيون أبنائه فأتى بالعجائب..

 

وإن هذا كله مدعاة لتذكير الأبناء أن يكونوا أبصر، وأحكم، وأصبر..

 

اللهم وفقنا لبر آبائنا، وأن نقول لهما -في كل أحوالهما- قولا كريما!

 

(99)

إصلاح (النومات الصغرى)؛ ربما يكون هو أول ما تحتاجه في سعيك لإصلاح (النومة الكبرى). فكر دائما وأبدا فيما يُقيمك من هذه الأخيرة قيامةً سعيدة، وانتبه لما قد يصرفك عن ذلك من صغائر الأمور هنا وهناك، فكم يُلْهي الصغير عن الكبير.

 

(100)

أؤلئك الذين يرحلون رحلتهم الأخيرة، في صمت وهدوء؛ يتركون في قلوب أحبائهم آلاما صامتة، لا ريب أنها ستتكلم فيما بعد. كان الموت يطوف عليهم ليل نهار، وحين أكمل دورته المقدرة استلمهم بهدوء، دون أن يشعر به أو بهم أحد. إن في ذلك لعبرة، وكفى بـ (الموت) و(الحياة) واعظيْن لقوم يتفكرون..

 

الأحد، 13 سبتمبر 2020

مشارق | (9)

 

(81)

ثمة صوت جميل يتسرب إلى روحك بين الحين والآخر. ينتشلك من حاضرك المتعب/ المرتبك/ المختلط إلى ماضٍ جميل، أو يطير بك إلى مستقبل يملأه الخيال بما تحب وتشتهي..

كنت تحسبه بعيد المصدر، أليس كذلك؟

كنت ترفع رأسك متطلعا تبحث عنه.. فاعلم إذن أنه كان أقرب إليك مما تتصور. لقد كان بين يديك، يقول لك، مُعْرِبا غير مُعْجم: أنا هنا!..

كان بين أذنيك، ولكن أَصَمَّتْك عنه أو استغفلتْك فكرة نَزِقة تجعل البعيد في مرتبة أعلى من القريب، وتستوفي له المعروف الذي كان أولى به الأقربون!

فارجع السمع كرتين، يرحمك الله..

 

(82)

لا تنطبق المعادلات الرياضية ولا المسائل المنطقية على كل ما يأتيه الناس ويذرون من شؤون حياتهم، فليس يصح -أغلب الأحيان، إن لم يكن دائما- ما تؤدي إليه تلك النُّظم العقلية الصارمة.

ثمة نظام مختلف في الاجتماع البشري، لا تسير فيه المعطيات والنتائج على وفق تلك النظم، فليست تؤدي للنتائج نفسها (دائما)؛ المدخلاتُ المتماثلة في الظاهر.

إننا نكون أدنى إلى (الإنسانية الطبيعية) كلما وسعنا قبول الآراء المتعددة فيما يسعه الخلاف، وأغضينا عن خطأ لا يقدم إصلاحه ولا يؤخر، وأصبرنا أنفسنا عن العجلة في تنبيه من يخطئ الخطأ اللازم الإصلاح إلى حالٍ أرجى أن يقبل فيه النصيحة والتعليم..

وعكس ما تقدم صحيح؛ فحذار من (إنسانية آلية) لا تستجيب إلا لصرامة القوانين الرياضية، ولم يقدر بعد صانعوها على ما طُبع عليه الإنسان من المرونة الحيوية وإمكانية التقدير لنسبية المواقف والأحوال.

 

(83)

في الطريق إلى هدفك المشروع؛ تذكر أنك لست الهدف الذي تسعى من أجله. أنت شيء، وهدفك شيء آخر/ كينونتان مختلفتان تماما. معادلة ستحميك حين الإخفاق -لا قدر الله-..

 

وإذن؛ فكن طموحا، وتوكل على الله. خطط، ونفذ، وتلمس أسباب النجاح؛ فإن حالفك التوفيق فقد نلت ما تريد، وإن كانت الأخرى فقد ربحت خبرة لا يستهان بها.. ورَبُّ التجربة والخبرة لا يُلْدغ من جُحر مرتين!

 

(84)

يختلف الناس في معالجة ما تتلقاه آذانهم.

- يختلفون في تقييمه: أَكِتْمانه أولى، أم إذاعته؟

فإن كانت الأولى: أهو شيء ينفع، أم أنه زائد على الحاجة؟

- ويختلفون في نقله، إن كانت الثانية: لمن، ومتى، وكيف؟ فليس يوفق إلى الإحسان فيها كل الناس..

فعليك، والحال هذه؛ أن تنتبه كثيرا لما ينطق به لسانك؛ فلست تأمن بعد أن ينقل عنك ما لم تقله، أو أن يُنْتَبَهَ كثيرا لما تعده من الحواشي بينما يعده الناس من المتون.. فلله في خلقه شؤون!

 

(85)

"في كل إنسانٍ تعرفه؛ إنسانٌ آخر لا تعرفه".

يخرج هذا الإنسان المجهول بالنسبة إليك، ضمن ظروف وأحوال مختلفات.

وفي التفاصيل، قبل لقائك به بقليل أو كثير؛ ثمة أشياء كانت تمور داخل نفسه أو تثور خارجها، بعضها جديد وبعضها مرت عليه الأيام ولكن طرأ ما يذكر به.. أشياء تغير مزاجه إلى حسن أو إلى سيئ، تهز كيانه بعنف فتخرجه خلقا آخر، أو تهزه بلطف فيبدو شيءٌ ما فيه على غير العادة..

هنالك، في لحظة اللقاء المفاجئة أو حتى بعدها بقليل أو كثير؛ قد تغفل فتعجب كيف يتغير الإنسان فجأة، وقد تنتبه فتعرف أننا كلنا هذا الإنسان!

 

(86)

تسندك (الفكرة)؛

لتخطو الخطوة الأولى في وسط ساكن، أو تبصر ما لم يره غيرك أو أبعد مما يرون، أو تتكلم بلغة جديدة غير معهودة يسمعها الناس كلهم/ لا فرق بين ذي سمع وذي صمم..

الفكرة يد وعين ولسان.

الفكرة شيء محسوس وإن بدت مجردة،

وهي (كَمٌّ) بقدر ما هي (كيف).. الفكرة عَالمٌ وأيُّ عالَم!

 

(87)

حين يصفو وجه الحبيب؛ يصفو وجه الحياة.

أليست الحياة، في أحد تجلياتها الجميلة؛ هي مَنْ نحبهم؟!..

بلى، وهي ذلك الشعور الساحر الذي يخالطنا كلما لقيناهم بعد افتراق، وهي شعورنا بأن اللحظة الأجمل هي لحظةَ نتقن فيها صناعة أسباب سعادتهم، وهي أدعيتنا الصادقة ونوايانا الطاهرة وسعينا الدؤوب في أن تجمعنا بهم جنة الدنيا والآخرة..

الحبيب أيقونة الحياة،

وبه تتعلق، أو تتصل (على الأقل)؛ فاعليات الإنسان في أكثر من جانب.

 

(88)

حفظت لنا كتب التاريخ والأدب مقولات ملهمة. ربما كانت تبدو في زمانها غير ذات قيمة، أو كانت من المعتاد الذي يمر على سمع الناس فلا يلفت ولا يثير، ولا يُتَصَوَّرُ -في أحسن أحواله- أن يتجاوز حدود الزمان والمكان. ولولا عبقرية من انتبه لها فرواها، وشَغَفُ من اهتم بها فأثبتها في الكتب؛ لضاعت، فحُرِمْنا بذلك مما يمكن أن نستدل به على واقع اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي أو غيرها من الشؤون التي يعدها الباحثون شواهد وقرائن مهمة في استقراء تفاصيل جرت في زمان سابق.. جزى الله عنا خيرا حَمَلَةَ التاريخ والأدب.

 

(89)

على مؤسسات التربية والتعليم أن تكون حازمة في ألا يعمل فيها إلا الأكْفَاء المخلصون. أؤلئك مؤتمنون على مقدرات الوطن ممثلةً في أفكار أجياله التي ستبنيه. فإن الكفء المخلص؛ كما يسوق المادة العلمية القَيِّمة، يبني في طلابه من القيم ما يُحِبُّ أن يراه في بنيه وخاصته؛ وكما يُحْسِن الإفتاء فيما يُشْكل من شؤونِ تعليمه، يُحْسِن النصح الصادق فيما يراه مُحْرِجا من الأخلاق.

وإن الجيل الذي يخرج على يدي مثل هذا؛ جيل -لا ريب- يستشعر مسؤوليته تجاه وطنه، عن زادٍ متين: قيمٍ دينية وإنسانية فضلى، ومعرفة علمية وعملية راسخة. جيل جدير بأن يعول عليه، ويوكل إليه، وإنه لخليق بأن يكون الخير -بإذن الله- على يديه..

 

(90)

في أبنائنا مظاهر من حياتنا التي تطورت ونضجت عبر مراحل العمر المختلفة.  نستطيع أن نرى شيئا مما كنا عليه فيما يصدر عنهم من سلوكات لطيفة أو مزعجة، وأن نتبين بعض تاريخنا اللفظي أو الصوتي في جرس أصواتهم وطرائق نطقهم، وأن نستقرئ في تغير أشكالهم واختلاف ما يقوله الأقارب والأباعد من عقد المشابهات بينهم وبين الوالدين أو عموم أهليهم؛ نستقرئ في كل هذا خارطة التغيرات التي عبرت من خلالها مظاهرنا الحالية..

إنهم يديرون شريط ذكرياتنا التي لم توثق بأحسن مما يوثق اليوم وغدا!

- هنيئا لنا بهم..