الأربعاء، 27 مايو 2015

للعقلاء فقط!

بوعي أو بدونه؛ يتداول بعض الناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي مقطع فيديو للواعظ المعروف مسعود المقبالي، يتحدث فيه عن زعم بعض مخالفي الإباضية أن قلة عددهم في العالم دليل على ضعف محتوى مذهبهم ومجانبته للحق والصواب، ثم يسوق قصة تبين أن العبرة ليست بالكثرة أو القلة وإنما بالقيمة، كالفرق بين كومة كبيرة من سمك مجفف (القاشع) وقطعة ذهب صغيرة!

وللأسف الشديد؛ فإن بعض هؤلاء يعيد الكلام حوله، مرارا وتكررا، دون كلل و لا ملل، كأنما وقع على غنيمة.. يعيده بتحليلات وتفسيرات مبالغ فيها أحيانا، وتقع في المعنى العام الذي يُظن أن الرجل قد وقع فيه أحيانا أخرى.

لقد طالعت الفيديو المذكور، وطالعت بعض الكتابات حوله، وأود أن أعرض عليكم ما تكون لدي عن كل هذا من انطباعات وملاحظات:

·     حديث الرجل من بدايته إلى نهايته موجه إلى أبناء مذهبه، أن يكونوا مستمسكين به أكثر، وألا يلتفتوا إلى أقاويل من هنا وهناك تهز ثقتهم فيه. وهو خطاب شائع –كما يعلم الجميع- عند دعاة كثر من كل المذاهب الإسلامية والفكرية بلا استثناء، في عمان وخارجها، بل هو -في الحقيقة- خطاب شائع –بشكل أو بآخر- حتى على مستوى الأسرة بين الوالدين وأبنائهم. ولا منطقية ألبتة لأن يفهم بشكل متشنج من قبل الآخرين، فالتعريف بالذات لا يعني بالضرورة تعصبا لها، أو التطرف في التعامل مع الغير.

·     أظن أن العقلاء جميعا يتفقون على أن الفكرة لا يحكم بصحتها وخطئها قياسا بعدد من يتبناها أو يرفضها، وإنما بمعايير أخرى موضوعية، يعرفها المنصفون، ويجدها الباحثون في مظانها. وإذن؛ فالقصة التي ساقها الرجل منسجمة مع موضوع الحديث تماما، ولم يقحمها إقحاما، بحيث يسوغ تفسيرها على نحو متشدد كما فعل بعض من كتب حول هذا الموضوع.

·     لم يتحدث الرجل عن مذهب بعينه حين ذكر قصة (القاشع)، ولم ينبز بذلك الوصف أتباع مذهب محدد، وكان يمكن أن تكون القصة سائغة لو لم يختمها بقوله: (نحن الذهب.. نحن الذهب)، فهذه الخاتمة تعبير سيء -فيما أرى- عن مضمون حسن!.. سوء التعبير ناشئ من مفهوم المخالفة، حيث يكون غيرهم هو (القاشع)، وحسن المضمون ناشئ من كونه حثا مكثفا للاعتزاز بالهوية وهو شيء مشروع ومقبول.

·     من الناحية الموضوعية المحضة؛ لا علاقة بين قصة القاشع، وما جاء بعدها من الكلام حول المذاهب الإسلامية التي ظهرت في أرض الحرمين الشريفين. وإذا ساغ لبعض الناس أن يفهموا من هذا الكلام أنه موجه لمذهب بعينه، فذلك شأنهم، وهو شأن عجيب –على أية حال-!.. لقد كانت تلك نقطة أخرى، في سياق الموضوع الرئيس، وهي هشاشة الأقاويل التي يسوقها بعض المخالفين لمذهب ما أو المتحولين عنه إلى مذهب آخر، وهي أن العبرة قد تكون بالمكان الذي يكون فيه المذهب، كما قالوا من قبل إن العبرة قد تكون بعدد أتباعه.

·     تردد في بعض الكتابات مصطلح (التطرف الإباضي) أخذا من التفسيرات التي سيقت لكلام الواعظ المذكور؛ وهذا كلام في غير محله، وأمر يراد به أكثر من الرد على مسعود وغيره. فأصحاب هذا المصطلح (الجديد الطازج) لم يجرؤوا على إطلاق مصطلح (التطرف) على دعاة ومشائخ مشهورين حرموا الصلاة خلف مخالفيهم في أحيان، وأجازوا قتلهم في أحيان أخرى، ولم يترددوا -لحظة- في تشويه تاريخهم، ونبزهم بأسوأ الألقاب، ومنع كتبهم باعتبارها مصدر تضليل وإفساد. وما قاله مسعود في مقطع الفيديو المذكور –على فرض خطأ النقاط التي سقتها أعلاه- نقطة في بحر، وغير كافية –من الناحية الموضوعية المحضة- لإطلاق مصطلح التطرف المسعودي –إن صح التعبير- فضلا عن عنوان فضفاض كهذا: (التطرف الإباضي).

·     أحب لمسعود وغيره من الدعاة في وطننا العزيز-على اختلاف مذاهبهم-، أن ينتقوا ألفاظهم بعناية وأن يتخيروا من العناصر لموضوعاتهم ما يحبب الناس إلى بعضهم البعض، حتى وإن كان الموضوع دحضا لشبهات تَرِدُ على مذهبهم من هنا وهناك. لا بأس أن يعتز الواحد منا بما لديه؛ لكن على أن يكون هذا في إطار من الاحترام والتقدير الصادق لمعتقدات الآخرين، وعدم تسفيه آراء علمائهم أو تشويه صورة أعلامهم؛ لأن بعض الكلام قد يفسر على نحو خاطئ عند المحبين والكارهين على حد سواء، كما أن جمهور المحاضرة ليسوا -بالتأكيد- الحاضرين في المكان فقط، بل قد يكون جمهورها الأكبر هم الذين يطالعونها فيما بعد في وسائل الاتصال الحديثة.

·     في كل الأحوال؛ مسعود المقبالي أو غيره، بشر يخطئ ويصيب. وهو –بصراحة أكبر- يمثل نفسه فقط، ولا يعكس توجها عاما لدى العمانيين الإباضية ولا الدولة، و لا لدى المؤسسة الدينية و لا شريحة المتدينين الإباضية –إن صح هذا التفصيل-. إن أحسن فيجب له الإحسان، وإن أساء فيجب عليه الاعتذار. وإن استدعى بعض الناس مقاطع أخرى (غير المقطع المذكور) لتأكيد ما يذهبون إليه من طائفيته، فعليهم ألا يغضوا الطرف عن مقاطع أخرى كثيرة أيضا، تدل على تسامحه وانفتاحه على المذاهب الأخرى، وكان كلامه فيها منتهى الاحترام والتقدير لمخالفيه، وبيان ما يتفق فيه الإباضية معهم. " يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى".

·     في النهاية، هذا خطاب للعقلاء (فقط) من بني الوطن، وليس معنيا بمن يحب الاصطياد في المياه العكرة، والسلام. 

الاثنين، 25 مايو 2015

التركيز على الإيجابيات

قبل أيام قلائل؛ غادر عنا إلى ربه المكرم الشيخ خلفان بن محمد العيسري. وهو أحد الدعاة والناشطين في المجتمع الذين استطاعوا أن يجذبوا إليهم أناسا على طرفي نقيض، مختلفي التوجهات والنزعات، والأعراق، والطوائف، وحتى الأديان! .. شهد على هذا جنازته المهيبة التي حضرها خليط عجيب من الناس، امتلأ بهم جامع علي الشيهاني الذي أقيمت فيه صلاة الجنازة، ثم تدفقت بهم شوارع وأزقة الحيل الشمالية المفضية إلى المقبرة.

تحدث كثيرون عن سيرة هذا الرجل الفذ؛ بمقالات في الصحف والمواقع الإلكترونية، وتدوينات ومرئيات في مواقع التواصل الاجتماعي، لكن يبدو أن ما لم يكتب ولم يقل في حقه كثير، يحتاج إلى جهود مخلصة، ليكون نموذجا قريبا يحتذيه شباب هذا الوطن من كل الأطياف.

في جملة ما قرأت عن الشيخ خلفان أنه كان دائم التركيز على الإيجابيات، في كل المواقف والظروف، ومع جميع الأشخاص، وأن هذا كان منهجا واضحا له في الحياة، وقد أكد لي تبنيه هذا الشعار ما صدَّر به صفحته في (تويتر)، حيث كتب مُعَرِّفا بنفسه أنه (متفائل مهما كانت الظروف)!

تأملت كثيرا في هذه الجزئية، ووجدت أنها كيمياء النجاح –إن صح التعبير-؛ فالنظر إلى إيجابيات الظروف الصعبة –مثلا- يكفينا مؤونة مكابدة مشقتها، وينأى بنا عن ما يصحبها من منغصات، لأننا نعيش في أفق آخر منها، وهو النظر إليها –كما يعبر فقهاء التنمية البشرية- على أنها فرص ذهبية تتنكر لنا في هذا الزي الموحش، أو بعبارة أخرى "احتضانها كفرصة للتحويل والتغيير إلى الأفضل". وفي مثل هذا السياق سيقت جمل من أمثال (الشدائد تصنع الأقوياء)، و(المحن تتحول إلى مِنَح)، وغيرها من العبارات ذات الدلالة البالغة.

والكلام نفسه يقال عن التعامل مع الأشخاص؛ فالنظر إلى إيجابياتهم والتجافي عن سلبياتهم، يجعلهم يَبْدون في أعيننا على أنهم مصادر معرفة وإلهام. وفي الأثر المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم "الحكمة ضالة المؤمن؛ أنى وجدها فهو أحق الناس بها" ما يدل على هذا.

لطالما حرم كثير من الناس أنفسهم من الاستفادة من قدرات الآخرين وخبراتهم بسبب تركيزهم على سلبياتهم -أو لنقل (ما يعتقدون أنها سلبيات فيهم)؛ فالسلبية أمر نسبي في نهاية المطاف- حتى صاروا إلى ما يشبه الحكم المطلق أنهم لا خير فيهم، وحكموا بأن كل ما يصدر عنهم إن هو إلا خطأ وتخلف مبين، ولو تأملوا وتفكروا قليلا لعرفوا كم قد يُخْلف الناسُ سوءَ الظن فيهم:
ترى الرجل النحيل فتزدريه * وفي أثوابه أسدٌ هصورُ


إن النظر إلى إيجابيات من نختلف معهم في أي شأن من شؤون الحياة، يفتح أمامنا فرصا واعدة للنهوض بواقعنا ومعارفنا إلى الأفضل، وفي قول (نيتشة): "يكفي أن تنظر إلي على أنني عدو، حتى تخطئ في فهم كل ما أقول" إشارة إلى ما ينبغي أن نروض النفس كثيرا عليه!