الثلاثاء، 23 يونيو 2020

مشارق | (7)


(61)
لا يكفي أن تسبق الناس بالنوايا؛ فالغلبة لمن أتبع النية بالفعل.
إن النية التي لا تتقدم باتجاه العمل هي الـ(حبر على ورق) كما يقول العامة، و(قرارات حبيسة الأدراج) كما يقول المهتمون بالشأن العام، و(الرجل المريض) كما يُكَنِّي كُتَّاب السياسة أحيانا عن الحاكم العجوز الذي لم يبق منه إلا المظهر، أو الدولة الكبرى تتداعى عليها الأمم من كل حدب وصوب!

(62)
#السعادة؛
بضاعة ثمينة يُبذل فيها الغالي والنفيس، وكعبةٌ يُحَجُّ إليها من كل فج عميق، وعلم يطلب ويُزاحَم أهله بالركب، وفن يحشر الناس إليه أيام زينتهم وسِواها..
فمن باب أولى ألا يُفَوِّت العاقل على نفسه اللحظة السعيدة الطاهرة، ولا يستبدل الذي أدنى بها؛ فلعله يعجل بذلك إلى ربه ليرضى..

(63)
وأنت تبحث عن شيء ما، تفاوض في أمر مهم، تسعى لتحقيق هدف عظيم؛ كن كالطفل الذي يبدو متأكدا أن حاجته مقضية، أو كن كالسمكة تبحث عن الماء في المحيط، كما يقول د.صلاح الراشد في بعض برامجه!

فكما يوفر عليك (الشعور بالوفرة) كثيرا من المعاناة؛ فإن (الشعور بالندرة) يضاعفها، ويسجنك في خيارات محدودة بائسة، ويجعلك في المجمل في وضع نفسي ومادي ضعيف!

(64)
طُبع بعض الناس، أو تطبَّعوا، على ألا يلتزموا بما هو واجب مفترض عليهم، وعلى ألا يسيروا فيما هو مندوب مستحب منهم؛ فيُصِمّون أسماعهم حين يجب الإنصات، ويُكِبُّون على وجوههم فيَضِلُّون سواء السبيل، ويتغافلون فيعمهون في سكرتهم..

زُيِّن لهم سوء عملهم، فحسبوا أنهم يُحسنون صنعا، حتى إذا فَجَأَتْهم نتائج ما قدموا؛ لم يكن أسمع وأبصر وأنبه وأطوع منهم!

ما ضرَّهم لو أنهم كانوا كذلك من قبل، ولكنها النفس الأمارة بالسوء، توسوس لصاحبها أنه يطير في سماء الحرية بما يصنع، فيما هو يتخبط عبداً لهواه المريض!

(65)
الأفكار ليست حمولة معنوية فحسب، إنها مادية أيضا، تَخِفُّ وتَثْقُل باعتبارات عدة، من الزمان والمكان وأحوال النفس، وغيرها. أرأيت كيف أن الأفكار السعيدة تكاد تطير بصاحبها بجناحين، فيما تهوي ريح الأفكار السيئة بصاحبها في مكان سحيق..
ثمة متسع (دائما) لفكرة سعيدة حتى في أشد ما يخاصم الإنسان السوي. ثمة خيرية إنسانية (وربما تكون عبادة) في كل فكرة سعيدة تنشرها في نفسك وفي الناس من حولك. الإيجابية، ليست ترفا، إنها -على الأرجح- مسؤولية يتعين أداؤها بإتقان!

(66)
قديما قالوا: (ومن الحب ما قتل)، والمعنى أن الحب قد يقتل صاحبه. ولكن العبارة حمَّالة أوجه، فهي تحتمل -إلى جانب معناها الشائع المذكور- معنى آخر، وهو أن الحب المتمكن في قلب الحبيب قد يدفعه إلى قتل حبيبه، بدافع الرغبة في البقاء إلى جانبه، أو صرفه عن الخروج عما ألفه منه، أو غيرها من الأحوال التي يخشى فيها الحبيب تغير حبيبه عليه!

فمن ثم؛ فليتأمل الإنسان في ضر يصاب به من حبيب قريب، وليتفكر، فربما كان ذاك شيئا من تعبيره الأهوج عن صادق المحبة وعنفوانها.. وعلى أية حال؛ فإن لكل محب في التعبير عن محبته مذاهب وشؤون، وربما كانت -في تطرفها- أشبه شيء بالجنون!

(67)
الكتاب صديقنا الوفي الذي لا تتغيَّر مودته ولا تنقلب محبته؛ نهجره طويلا فإذا أقبلنا عليه وجدناه أقرب لنا وألزم، ونقطع عليه حديثه النفيس فإذا رجعنا إليه وجدناه أحفى بنا وأكرم.. حديثه لا يمل، وفكرته ذات جناح، وإلهاماته غير مسبوقة، وعجائبه لا تنتهي..

قال الجاحظ: "ولا أعلم جاراً أبرَّ، ولا خليطاً أنصف، ولا رفيقاً أطوع، ولا معلماً أخضع، ولا صاحباً أظهر كفاية ولا عناية، ولا أقل إملالاً وإبراماً، ولا أبعد عن مراء، ولا أترك لشغب، ولا أزهد فـي جدال، ولا أكف عن قتال من كتاب"..

(68)
كل أمر يسعك (السكوت) فيه، فاعلم أنك تورد نفسك موارد الضيق، وربما التهلكة؛ إن تكلمت فيه.
تجاهل ما استطعت من لغو الناس، وجنب نفسك القيود التي قد يورثك إياها خَوْضُك فيما لا ناقة لك فيه ولا جمل، وفيما تعلم أن كلامك فيه لا يسمن ولا يغني من جوع..
وكلما عرفت أن للقوم في كل مرة حديثا تافها يشغلون به الشارع عن مهم الأمور، فأْتِ أنت بالحديث الطيب العالي الذي ينفع الناس ويمكث في الأرض.
بين عينيك أشياء كثيرة لتفعلها، والوقت أقصر مما تظن!


 (69)
إن من صفاتنا الطيبة والسيئة، صديقا لنا وعدوا، على حد سواء . تعرف ذلك في كثير من المواقف، فقد تنجي الإنسان صفة سيئة فيه، وقد تخونه صفة حسنة.  وفي هذا يقول أحمد فال ولد الدين: 
"وكثيرا ما يصبح سلاح المرء سلاحا بيد عدوه، وكثيرا ما يضحى الجمال نقمة على حامله"، وقبله قال الجاحظ: "وربما شاب الرجل بعض الفطنة ببعض التغافل، ليكون أتمَّ لكرمه، فإن الفطنة إذا تمت منعت من أمور كثيرة"، وقال المتنبي (ويصدق وعدها، والصدق شر إذا ألقاك في الكُرب العظامِ)!

(70)
الشدائد التي شكرها الشاعر حين قال:
جزى الله الشدائد كل خير/ عرفت بها عدوي من صديقي
ليست محاسنها في أنها تعرفنا العدو والصديق فحسب؛ بل إنها تكشف لنا عما في أنفسنا من عيوب ونقائص، وتحكي لنا قصة الصفات التي وجدت طريقها -خلسة أو على مرأى ومسمع منا- إلى بنيان النفس..
هذه الشدائد توقد لنا شمعة في ظلام الجهل بأنفسنا، وتهدينا الصراط المستقيم لتدارك ما قد فات والانتباه لما هو آت..


الاثنين، 15 يونيو 2020

بر | (4) - تدوينات رمضان 1441 هـ


 (91)
إنســـــــــان..
قال موظف لزميله، بمكر مقصود، وكان قد تأخر في الوصول إلى العمل: لقد تأخرت.. هاه؟!
كان يستثير زميله ليسمع ما قد يقوله من جواب ظريف أو عنيف!
فوجئ بمديرهما يجيبه، وكان حاضرا: (أليس من حقه أن يتأخر؟!)..
- كم مديرا يستطيع أن يصف (التأخر) بأنه (حق) للموظف؟

اختار المدير أن يأتي بهذا القول، لأنه أراد أن يدلل على أنه يتفهم تماما ما قد يعتري الموظفين لديه من أحوال مشغلة أو مقلقة..

وكلما تذكرتُ جواب المدير: (أليس من حقه أن يتأخر؟)؛ بدا لي أنه كان يقول من وراء كلماته تلك: (أليس من حقه أن يكون إنسانا؟)!!


(92)
شاي أمي
حدثني أحد إخوتي، فقال: ذهبت يوما إلى صناعية الوادي الكبير في مسقط، وفي الورشة التي اخترتها لإصلاح السيارة؛ فاجأني العامل الآسيوي الذي أوكلت إليه مهمة الإصلاح بوجهه البارد الذي يوشك أن يتجهم.. وجه لا يبدو أن الابتسامة عرفت طريقها إليه، منذ وقت قريب على الأقل..

سألته، وقد شرع في إصلاح عطل السيارة، إن كان يعرف مقهى قريبا يقدم شاي كرك جيدا؛ فأشار إلى جهة قريبة. وحين عدت بالشاي؛ سألني ببرود: مضبوط؟! قلت له: لا.. فأجاب بعربيته المكسرة مستنكرا، وفي لهجته مزيج من سخرية ونقمة ورغبة في التشفي: وين كله دنيا انته حصل ميه ميه شاي مضبوط؟
ويعني: في أي مكان يمكنك أن تحصل على شاي مضبوط بنسبة 100%؟
فأجبته: أحصل عليه في البيت.. إنه شاي أمي..

ولم أكد أنهي كلمتي الأخيرة؛ حتى استحال هذا العامل خلقا آخر من اللطف والرقة..
لقد انكسر جليد وجهه، وجرى نهر فمه؛ فإذا وجهه يبش من عبوس، وإذا حديثه يرق ويتدفق من خشونة واقتضاب..

كان المفتاح كلمة (أمي).. كان فيها السحر كله!  وقال -فيما معناه- وهو يُقبل عليَّ بوجهه كله، كأنما هي لحظة اللقاء الأولى بيننا، ويكاد يبكي: صدقت..  كل ما تصنعه الأم فهو زَيْنٌ كله!


(93)
ماء الورد
يعجبني التعطر بما الورد، لا سيما يوم الجمعة، وكلما تعطرت به ذكرت فضيلة شيخنا المربي حمود الصوافي الذي دأب على تعطير ضيوفه بعد الطعام بهذا العطر الجميل..
يختار الشيخ لذلك؛ الجيد من ماء ورد الجبل الأخضر الذي يفوح زكيا في الأرجاء، فنستعيد معه ذكريات في الطفولة والفتوة، ونسترجع روائح طيبة في الزينة والطعام وبيوتنا الطينية الطيبة..

حين زرت الشيخ مرةً بُعَيْد عقد قراني، قال لي: ادْنُ، فدنوت..
فاجأني وهو يبتسم بأن رَشَّ عليَّ ما الورد!!
وتلك عادة للشيخ -حفظه الله- مع المتزوجين الجدد، لم يكن لي علم بها من قبل..
- يا الله، كم أحسست بلطفه وأبوته!‏
كان ذلك الإحساس الأول فحسب..
ثم لا تسألوا عن كَمِّ الأحاسيس الفاخرة والرسائل الفاتنة التي يقولها ماء كهذا، عن شيخ جليل كهذا، لشاب في مقتبل حياة جديدة..


(94)
لا بد من كلمة صادقة
في وقت متأخر من الليل رأتها على قارعة الطريق، فعرفت كل شيء كما عرفنا من قبل، ولكنها آثرت ألا تتأخر كما تأخرنا، وألا تمضي غير مكترثة كما مضينا مرات ومرات..
نزلت إليها، فمشت على بساط من عزيمة صادقة، وهَشَّتْ مخاوفها بعصا من خواطر يبدأ أولها من سؤال:(ماذا سأقول ربي إذا سألني؟)، وليس ينتهي آخرها عند: (كم شابا سيضيع لو أنها تأخرت؟ كم أسرة سينهدم عليها بيتها؟ كم سيُبتلى المجتمع؟ كم سيخسر الوطن؟)..

من هذه؟ ومن تلك؟
أما الرائية فهي امرأة عاقلة من بيننا، كانت في طريق العودة إلى بيتها بعد زيارة لأمها، وأما المرئية فهي امرأة غريبة، هاجرت عن أرضها إلينا بغيا واستكباراً ومَكْرَ السيئ، فكشفت عن المستور، وضيَّقت على المكشوف الملابس، وأهرقت في وجهها من الألوان ما أحال قبح المخبر والمظهر إلى ما يظنه الفارغون نوراً على نور، ثم ها هي تبيع جسدها للعابرين منهم؛ وإذن فلم يكن من الأولى بإزاء الثانية إلا كلماتٌ يدفع إليه خوف الأم على ابنها، والزوجة على زوجها، والأخت على أخيها، والإنسان على أخيه الإنسان..

ولست أريد هنا أن أسرد عليكم ما كان بين المرأتين من كلام، كما لست أعلم ما إن كانت الثانية قد انصرفت عما كانت فيه تلك اللحظة، وما إن كانت قد ثابت إلى رشدها مطلقا، إنما أريد أن أنبه نفسي وإياكم إلى أن ظواهر كثيرة مررنا عليها وستمر علينا، كان وسيكون في إمكاننا أن نقول بإزائها كلمة، ولكننا نحجم عنها لأسباب هي -في الواقع- من جنس ما نظنه في الكلمة لو تكلمنا بها: جريمة أو عيب أو حرام أو سوء خلق.. ألا فليسأل كل منا نفسه: كم كلمة أحجمنا عنها وكان يمكن أن تقود التغيير؟!..
- لا بد من كلمة صادقة!


(95)
محراب الذكريات
بيني وبين محراب مسجد (شريعة الطفيل) القريب من بيتنا؛ ذكريات عطرة لا تنسى!!
كنت أذاكر فيه لامتحانات الثانوية، فوجدتني في أحد أيام المذاكرة أتناول قلم الرصاص، الذي كان رفيقي في المذاكرة، وأكتب هذه الجملة: (متى تنتهي الامتحانات؟)..
كتبتها لأرجع إليها فيما بعد، فأقارن بين الشعورين: قبل الامتحانات، وبعدها. كان هذا نوعا من تأريخ الشعور، وكم يحتاج الإنسان إلى أن يؤرخ مشاعره بين حين وآخر، ليرى كيف كان وأين صار، ويتأمل فيما طرأ من تبدلات وتغيرات.
رجعت لهذه الجملة في السنوات التي تلت سنة الامتحان تلك مرارا وتكرارا، وكلما نظرت إليها تذكرت شعوري بالسجن، حيث كان الامتحان يلزمني مكانا واحدا، أراوح فيه بين هيئاتِ ماكثٍ وحيدٍ في مكان معزول (قياما، وقعودا، وعلى الجنبين) حتى أنهي مذاكرة مادة الامتحان؛ فأحمد الله على نعمة الحرية التي منَّ بها عليَّ بعد ذلك..
ظلت هذه الجملة ثابتة في مكانها لسنوات عدة. لا أظن أن أحدا انتبه لها، بسببٍ من دقةِ الخط الذي تعمدتُ الكتابة به، وعدمِ الضغط على القلم إمعانا في إخفائه. كانت قراءة الجملة تحتاج إلى الاقتراب كثيرا من الجدار حتى يتبين القارئ ما هو مكتوب على وجه الدقة!
ظلت الجملة يقظانة، حتى تغطت بالأصباغ التي توالت بعد ذلك على المحراب، فنامت..
نامت على مستوى الشكل، ولكنها لم تنم في ذاكرتي، فكلما رميتُ عينيَّ إلى المحراب، استيقظتْ حيَّةً، واستيقظت ذكريات كثيرة عزيزة ارتبطت بها..
وحين أصلي في هذا المسجد، فأرمي عينيَّ في محرابه الحبيب، أتذكر رفقته الصالحة، وأتذكر جملتي الحية.. ثمة امتحانات لا تنتهي يا جملتي العزيزة.. الحياة كلها امتحانات، ما إن ينتهي واحد حتى يبدأ آخر..


(96)
رصف وعصف
في تمرين للخطابة، حفظت مقطعا من كلام بليغ بديع لأحد السلف عن الدنيا والموت.
كان هذا في مدرسة الشيخ حمود الصوافي، وكنت فتىً حديثَ السن..
حين كنت أتلذذ بصف الكلام، كان الشيخ يبكي متأثرا!‏
كنت مأخوذا برصف الألفاظ فيما كان الشيخ مأخوذا بعصف المعاني، وبَيِّنٌ أن الفرق بين الأخذين هو فرقُ ما بين الفتى الغِرِّ الغافل والشيخ الجليل العامل!


(97)
أخاك أخاك..
ثمة أخٌ سيبقى قريبا من الوالدين اللذين يقيمان في القرية، حيث اقتضت ظروف بقية الإخوة أن يكون مكان عملهم أو دراستهم بعيدا عنها.. 

أخٌ يعطي بسخاء ورضا وابتسامة ظاهرة، وينظر إلى إخوته نظرة المحبة والصفاء، ويتقرب إلى والديه بما يقربه إلى الله غيرَ منتظر مبادرة أو معونة من بقية إخوته، ويكفيهم مؤونات عدة حال غيابهم.. 

أخٌ جدير بأن يكون المقدم في المجالس والمواقف، والمستشار فيما يعني إخوته من أمورهم الاجتماعية؛ لأنه -بما هو عليه من طبيعة محبوبة وصفات حميدة وسيرة سوية- أب ثانٍ لهم، وهو (الكبير) -مهما كان ترتيبه بينهم-، الحقيقُ -لا ريب- بما قاله الشاعر:
"وللأخِ الكبيرِ حقٌّ كالأبِ"!..
ليس الكبر بالعمر في مثل هذا المقام..

أقول هذا، وأنا أكبر إخوتي عمرا، ولكنني طالما رددت أن أخي الذي يصغرني مباشرة هو كالأب في تعاطيه معنا..
وإن أخاً مثل هذا، جدير بما قاله الشاعر في ما يتعيّن النظر به إلى (الأخ):
أخاك.. أخاك.. إن من لا أخا له
كساع إلى الهيجا بدون سلاحِ


(98)
خيرية الناس
في الناس من حولنا خير كثير، مهما اختلفت مظاهرهم وشؤونهم في الحياة. وإذا أردت الدليل، فتأمل في تسابقهم على مساندة الأعمال الخيرية. فما يكاد يُعْلَن عن حاجة مشروع خيري (مسجد/ مدرسة/ أسرة فقيرة/ وقف/…) للدعم؛ حتى يبادروا إلى ذلك من كل حدب وصوب!

والأكثر دلالة على خيريتهم أن عددا منهم مبادرون مفاجئون، وهؤلاء هم الذين لا يرتبطون بالمشروع من جهة قريبة، ولم تستقم في الذهن بعدُ بيننا وبينهم أسباب موضوعية كافية تجعلهم يخطرون ببالنا لدعم هذا المشروع أو ذاك، ولو قد خطروا فربما يكون أكثر ظننا فيهم أنهم لن يهتموا، لأسباب كثيرة..
هؤلاء المبادرون المفاجئون لا يحملهم على المبادرة إلا طبعٌ خفي عنا فيهم، وهو حبُّ أن يكون لهم إسهام في وجوه الخير، فحسب.

أقول هذا عن تجربة..
فحين توقف مسجد الحي الذي أسكن فيه (مسجد الرحمن) لأشهر طوال بسبب عدم وجود التمويل؛ تسارع الناس -مشكورين- إلى حملة تبرعات، كلٌ بما يستطيع، منهم من يتبرع بالسهم ومنهم من يتبرع بالعشرة والخمسين (السهم بعشرة ريالات)، وكان لهذا أثره الكبير في استمرار أعمال المسجد وتقدمه.

ومن بين من بادر شخص فاجأني بأن أرسل: "مرحبا.. تم التبرع بمبلغ (500) ريال لوجه الله".. هكذا بدون مقدمات، (50) سهما مرة واحدة..

وتواصل معي أحد زملاء العمل، يطلب أن يكون له (6) أسهم؛ فإذا هو يرسل قيمة (8) أسهم!.. ثم عرف فيما بعد بأن سهمين ينقصان المبلغ المتوفر عن الوصول إلى غايته، فأرسل يقول إن والدته ترغب في التبرع..
يبدو أنه أبلغها بحاجة المسجد لذلك، وما هي إلا دقائق حتى أرسل لي وصلا بمبلغ (200 ريال).. لم تكتف هذه الوالدة الكريمة بأن السهمين في موازين الله (20)، بل أرادت -حفظها الله- أن تأتي بالعشرين سهما لتفوز بمئتي سهم عند الله، والله يضاعف لمن يشاء!

ودونكم شخص آخر، عرفته في فترة من الزمان، ثم انقطع التواصل بيننا تقريبا، فاجأني بتواصله مبادرا لإكمال نصف سهم ناقص ولأكثر من سهم، وسائلا عن رقم الحساب المصرفي للمسجد، المعتمد من الجهات الرسمية، فأرسلته له: وما هي إلا ساعة أو أقل حتى أرسل لي وصل التحويل، بارك الله فيه.

والملاحظات في هذا الشأن كثيرة على كل حال، عن مثل هؤلاء المبادرين المفاجِئين، فمنهم من أرسل (100) كاملة، ومنهم من أرسل (150)، ولكن المقام لا يتسع لذكرها هنا..
جزاهم الله خيرا، وأخلف عليهم -بما أنفقوا- عظيم الأجر وطيِّب الذكر وبركة العمر؛ فلقد وصل مسجدنا إلى ما وصل إليه بتوفيق الله أولا وأخيرا، وبما قدموه -مشكورين- من أسباب مادية مهمة جدا في ذلك.

في الناس خير كثير، وإنما يحجم بعضهم عن المساهمة في أعمال الخير عدم موثوقية الجهات القائمة على هذه المشروعات، أو عدم قدرتها على إقناعهم بموثوقيتها، والتأتي إليهم في ظروف مناسبة بالتي هي أحسن..


(99)
كيف تكسب كل الناس؟!
قال لي: "من لا تكسبه إلى صفك؛ فاعمل ليكون منك على الحياد"..
عبارة لم أنسها من أستاذ عزيز أدين له بفضل التوجيه في المرحلتين الإعدادية والثانوية، وبأكثر من هذا..
تتشبث بعض العبارات بالذاكرة، وتقاوم -بما فيها من يقظة المعنى ونوره، ومن نُبل صاحبها وإخلاصه- عصف الرياح، وكثافة الظلام.
وهذه العبارة لم تكن تناسب الموقف الذي سيقت فيه، فحسب؛ بل كان الرجل الحكيم يحدثني بها عن منهج صالح في الحياة!


(100)
إنسانية
بعد مرور قرابة الشهرين على أحداث كورونا؛ اتصل بي صديق عزيز، لم ألتق به منذ أشهر عدة. قال لي: تخيل.. لقد اشتقت شيئا مما كنت ألومك عليه.. لقد أحسست بقيمته الآن أكثر من أي وقت مضى!

وصديقي هذا، نموذج فريد في شفافية الروح، وإرسال النفس على سجيتها في مواقف كثيرة، لا سيما مع أهله وأصدقائه وزملائه المقربين، يفاجئهم بأسلوبه الظريف بما يعتمل في نفسه تجاه حركةٍ بدت من أحدهم في موقف ما، أو كلمة سمعها من آخر في حديث دائر، أو شيء لم يَقْبَل أن يمر عليه مرور الكرام؛ مما قد ينتبه له كثير منا ولكننا نحجم عن إبدائه -في أكثر أحوالنا- لأمر في النفس، أو لغيرها من الأسباب المفهومة في مثل هذا السياق..

يصدر صديقي في سلوكه هذا عما طبعت عليه روحه الجميلة، ويعبر عنه بأريحية ظاهرة دون تكلف ولا مواربة، بأسلوب ظاهرُه النقد وباطنه المحبة والفكاهة التي لا تخفى على السامع، يقول ما يريده ضاحكا أو وهو في حال أدنى إلى الضحك.
قلت له مرة، وكنا نتحدث عما يَرِد في الكتب وصفا لبعض الناس من أنه "كان أشبه الناس سريرةً بعلانية": أنت أحد هؤلاء.. أنت من فئة الناس الذين (باطنهم كظاهرهم).. شخص شفاف!

لقد كان من حظي السعيد أنني صحبت صديقي هذا سنوات عدة في محطات مختلفة، فما اختلف طبعه هذا مذ عرفته. وفي أوائل أيام المعرفة بيننا، حيث كانت علاقتنا أشبه بالرسمية؛ كنا نلتقي أول الصباح، فنتصافح ونتبادل التحايا المعتادة، ثم قد يستجد من الشؤون بيننا ما نحتاج معه إلى اللقاء بعد لقائنا الأول مرتين أو ثلاثا، كما هو شأن زملاء العمل؛ فما أكاد أدلف إلى مكتبه متلفظا بألفاظ السلام حتى أمد يدي إليه مصافحا، كما هي العادة التي تربيت عليها..
وإذن؛ فربما بلغت حصته في اليوم الواحد من المصافحة أربع مرات تقريبا، دون أن يُشعرني هذا بتأنيب الضمير -بطبيعة الحال-، فيما كان صديقي هذا ينتظر اللحظة المناسبة ليعبر لي عن احتجاجه -وهو ابن المدينة- على هذه البرمجة القروية التي يراها متعبة..

وحين تكرر الأمر غير مرة، وزال ما بيننا من الكلفة؛ أعلنها بصوت واضح وصريح: "أسألك: ألا تمل من المصافحة؟.. مرة واحدة تكفي يا أخي؛ صدقني.. ما هذه الهواية العجيبة؟.."، ومن يومها اتفقنا -بعد أن بدت نواجذنا من الضحك ذلك اليوم، على معاناته من ناحية وعدم شعوري بها من ناحية أخرى- على أن نتصافح مرة واحدة، ولكن هذا احتاج -بالطبع- إلى برمجة جديدة، كما هو حالنا اليوم -في ظل كورونا- حيث نكبح جماح اليد أن تمتد للمصافحة على غفلة منا..

وفيما تلا ذلك اليوم التاريخي من شهور وسنوات؛ كانت ذكرى تلك الحادثة الظريفة تثور في مواقف مختلفة بين حين وآخر. وقد كانت آخر ثورة لها أوائلَ الأيام التي أُعلنت فيها التوجيهات الصحية التي تقضي بعدم المصافحة؛ فقد أرسل صديقي هذا في إحدى مجموعات الواتساب التي تجمعنا بعدد من زملاء العمل السابقين: "الله يعين حسن العميري حتى نتجاوز هذه الفترة على خير.. المصافحة المتكررة من أفضل الهوايات عندهم!!"

وعودة على ما ذكرته أول هذا الكلام من اتصاله، بعد أن سادت هذه القيم الجديدة في التحية، فلا مصافحة ولا اقتراب، حتى بين أفراد البيت الواحد؛ قال صديقي: "لقد شعرت بالحنين إلى سماع صوتك. تذكرتك إذ رأيتنا ونحن في البيت ليس بيننا من المصافحة والاقتراب ما كان.. ياه؛ أي شعور بالوحشة!.. لقد حن قلبي إلى المصافحة"..

كأنما أراد صديقي العزيز أن يقول: "إن في المصافحة قدرا كبيرا من الإنسانية"، أو أن يقول: "كم تُرَغِّبُنا أيامُ الشدة في معانٍ خَيِّرة طالما رغبنا عنها أيام الرخاء"، أو أن يقول، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلم عليه، وأخذ بيده فصافحه، تناثرت خطاياهما كما يتناثر ورق الشجر "!


(101)
شيك مفتوح
-       "إذا احتجت شيئا؛ فأنا موجود"..
لم يكن يثق حين قالها بكنز من المال ادَّخره من قديمٍ لمثل هذه اللحظة، وإنما كان يثق بكنزٍ في القلب، تشاركت فيه معاني الإيمان العميق، والأبوة الحانية، والوفرة الذاتية، والثقة في ابنه المكافح الذي أبت عليه نفسه منذ حداثة السن إلا أن يشق لنفسه طريقا صالحا للرزق يستعين به ويعينه..

ولم يكن الابن حين اتصل بأبيه، يشكو إليه ما آل إليه أمره، ويستشيره فيما يتعين عليه فعله؛ لم يكن يقصد بهذا إلى طلب المعونة المالية من أبٍ يعول -بإمكانياته المحدودة- أسرة فيها تسعة من الأولاد، ولكنه أراد أن يسمع منه شيئا يواسيه وينهض به من جديد. أراد أن يسمع منه شيئا مثل هذا؛ فمن ثم كان وصفه لها وصفا جميلا أعجبني، وأحب أن أنقله لكم هنا:

-       "كانت هذه الكلمة بمثابة (شيك مفتوح)"!!..
وإذن؛ فقد رآى في كلمات أبيه له رأسمال البداية الجديدة (بلغة أصحاب المال)؛ فلا غرو أنه انطلق إلى ما أراد وأصبح من الناجحين..


الحكاية أعلاه عن د.خالد المطاعني، ذكرها في البرنامج الحواري (هكذا نجحوا)، الذي يقدمه د.طلال الرواحي على قناة الاستقامة. وقد حكى رجل الأعمال المكافح عن تجارب كثيرة من النجاح والإخفاق في عالم الأعمال، وكان مما حكاه أن شريكا أجنبيا له في مكتب عقاري في مسقط أبلغه باستغنائه عنه، وأن عليه أن يرحل!
كان هذا أشبه بالطرد لشاب ما يزال يخطو الخطوات الأولى في عالم الأعمال؛ فحينئذٍ -ولأمر ما- اتصل بأبيه، فأشار عليه أن يستقل بنفسه عن أي شريك ويبدأ مشروعا جديدا.

والآن.. ألا ترون أن كلماتنا الطيبة الصادقة لمن نحب، في لحظات يأسهم أو إخفاقهم، تعني لهم الكثير.. وإذن؛ فليس أقل من أن نجود بها، فربما كانت عمود الأمل بعد يأس مهلك، ومنشأ الفكرة الملهمة بعد إخفاق بغيض..


(102)
أكثر من حياة
في كل مرة أزور فيها معرض الكتاب؛ أرى غير واحد من الكتاب، والأدباء، والباحثين، والفنانين، والأصدقاء. بعض هؤلاء من داخل عمان وشمالها، وبعضهم من ساحلها وجنوبها. بعضهم أراه لأول مرة، وبعضهم رأيته من قبل. بعضهم تجمعني به معرفة قديمة أو حديثة، وبعضهم لا علاقة بيني وبينه. بعضهم مَعْنِيٌّ بالخطاب المتديِّن، وبعضهم بخطاب آخر مختلفٍ عنه في قليل أو كثير. بعضهم مهتم بإخراج ما سطره العمانيون الأوائل، وبعضهم مهتم بتعزيز النتاج الثقافي الجديد. بعضهم مهتم بإنشاء الخطاب، وبعضهم بنشر الخطاب. بعضهم حديث التجربة في الكتابة، وبعضهم مُعْرِقٌ فيها ومخضرم.

كانوا جميعا، جماعات وأفرادا، يمضون إلى ما يناسبهم من الكتب، ويتبادلون أحاديث ودودة مع من يلقون، ويتجلى في وجوههم أثرٌ من الرضا والسرور بفعالية كهذه.

لاحظت أن حالةً من (الاختلاف الجميل) تسود المكان. كان معي ابني الصغير أسامة. لاحظت أنني وإياه مختلفان أيضا.. مختلفان في العمر، وأن في المعرض من يشبهنا في اختلافنا هذا، فَثَمَّ الصغار وثَمَّ الكبار، وثم من جاء باحثا عن كتاب، وثم من جاء باحثا عن تسلية يزجي بها الوقت!

هل لاحظتم أن فعالية كهذه يمكن أن يجتمع فيها المتناقضون على بساط من محبة، كما يجتمعون في وطن واحد يحبونه جميعا، ويعتقدون أن من واجبهم الوفاء له في كل الظروف؟ هل لاحظتم أنه صورة مصغرة للوطن الذي يسع الإنسان في كل أحواله؟ هل لاحظتم أن الكتاب وطن مستقل بذاته، يفتح أبوابه لكل إنسان مهما كان.. هل لاحظتم أنه -في الحقيقة- أكثر من وطن، قياسا على مفهوم قول العقاد الشهير (في الكتاب أكثر من حياة)؟!!


(103)
نحن نتصافح
عوَّدت نفسي بعد كل دخول إلى بيتنا، أن أصافح كل من فيه من أهلي، وأن أُقَبِّلَ يدَيْ والديَّ. نشأت هذه العادة عندي بعد أن وجهني أستاذي إلى أن أجعل لعلاقتي بأبي وأمي طابعا مميزا. كنت قد لاحظت قبل هذا، في المرات التي كنت أقضي فيها يوما كاملا عند جدي وجدتي؛ أن أخوالي وخالاتي يلقون عليهما في الصباح والمساء تحيةً ذاتَ طابع مميز. تتعالى أصواتهم، كل من مكانه، عند دخول الجدين أو مرورهما عليهم: "صْباح الخير أبوي.. صْباح الخير ماه"، وهكذا الشأن في المساء.. وكنت أسعد بأن أكون جزءا من هذا المشهد الجميل الذي لم أكن معتادا عليه مع أبي وأمي!
عندما طبقت الأمر في بيتنا، أردت أن أضيف إلى هذه التحية الجميلة، عنصرا آخر يجعل من التحية موقفا مميزا، ويصبغ علاقتي بوالدي بصبغة فارقة. قررت أن ألقي عليهما التحية ذاتها مقرونة بمصافحة يديهما وتقبيل ظاهرها. كان الأمر محرجا لي أول مرة، وكنت كأني مقبل على معركة فاصلة. تعجبت أمي وابتسمت، وقال أبي ساخرا: "عجيب.. ماذا يحدث اليوم؟!". لكنني واصلت الكفاح، وقلت في نفسي إنه لا مجال للتراجع بعد الآن!..
كنت أفعل هذا وحدي في البداية دون سائر إخوتي، وقالت لي أمي مرة عندما غبت عن البيت في دراسة صيفية لمدة شهرين: "لقد افتقدنا تحيتك في الصباح والمساء". لكن إخوتي تداركوا ما فاتهم بعد ذلك، فأضافوا إليها إضافة حسنة بأن جعلوها بعد كل صلاة، وصرنا نذهب لتحيتهما خمس مرات في اليوم والليلة، زرافات ووحدانا، وما زلنا كذلك، والحمد لله.

 أحاول أن يعتاد ولديَّ الصغيرين على ذلك أيضا، فأتعمد أن أؤدي التحية المذكورة أحيانا عندما يكون أحدهما في حضني فيرى مني تجاه والديَّ ما أحب أن أرى منه هو مستقبلا تجاهي. والآن.. كلما دخلت إلى البيت، خَفَّتْ ابنتي لمصافحتي حين تسمع مني: "السلام عليكم"، ثم تُقَبِّلُ يدي، وأقول لها: "خْشوم" فتُدْني أنفها من أنفي، كما هي تحيتنا في القرية في المناسبات الرسمية وما يشبهها..
ولأن هذا السلوك أصبح شيئا عادياً جداً في حياتنا اليومية، فقد عجبتُ أشد العجب حين قال لي أحد الأصدقاء إنه لا يجرؤ على أن يحيي والده بأكثر من المصافحة، وقال آخر إن أياما تمر دون أن يفكر في أن تَلْمَسَ يدُه يدَ والدِه، وأخبرني ثالث إنه لا يتصور نفسه يقول لأبيه: "صباح الخير".. هنا تصير الحياة بين الأهل كالورقة اليابسة، سهلة الانكسار والتبعثر، خفيفة على الريح الخفيفة توجهها إلى مجاهل غير مأمونة؛ لذا حافظوا على المصافحة والتحية في البيوت..
يروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"إِذَا تَصَافَحَ الْمُسْلِمَانِ لَمْ تُفَرَّقْ أَكُفُّهُمَا، حَتَّى يُغْفَرَ لَهُمَا".. أسأل الله أن يغفر لنا ولكم، ولوالديّ وأهل بيتي جميعا..


(104)
أبي
لي صديق جاوز الأربعين، وقد نال الشيب من أكثر شعر لحيته، وله حضوره ومكانته بين الناس؛ كلما ذكر أباه الشيخَ المعروف، ذا العلم والوجاهة في البلاد؛ اختار أن يقول (أبوي) بدلا من (الوالد)!

وقد كنت -وما زلت- أشعر أن في الكلمة الأولى بِرًّا وعذوبةً وإشراقًا أكثر بكثير من الثانية. وربما أكَّد هذا في نفسي ما سمعته منذ زمن طويل، من رجل كبير في السن، كلما جلس إلى الناس في مجلسٍ حَدَّثَهم بما علَّمَتْه الحياة وما اطلع عليه في الكتب من السِيَر والآثار؛ ذكر مرة أنه اطلع فيما اطلع عليه أن كلمة (أبي) في حديث الإنسان أَتَمُّ لبره من كلمة (الوالد). ذكر الرجل مقالته هذه، وهو يعتب على أخ له أصغر منه، يختار كلما ذكر أباه الكلمة الثانية، فكأنه كان يأسف منه لهذا..

وعودة على الصديق؛ فقد لاحظته يقول كلمته تلك في سياقات مختلفة، بعضها مع خاصته، وبعضها مع عموم معارفه، بل لقد سمعته كذلك في سياقات رسمية أو شبيهة بالرسمية، لم يَحُلْ بينه وبين كلمته الأثيرة في التعبير عمن ينتسب إليه؛ ظنُّ من ظنَّ أن في كلمة (الوالد) وجها من تهذيب اللغة، أو اختياراً لفظيا صالحا لما يناسب خارج البيت، كما هو الشأن مع الملابس وغيرها، مما نختلف به في داخل البيت عن خارجه!

هل لاحظتم أنني قلت (الأثيرة) وصفا لكلمته تلك؟
ذلك أنه يغلب على ظني أن الرجل يصدر في كل هذا عن بِرٍّ واعٍ لا عن عادة لفظية؛ فقد أشار عليَّ مرة، حين لاحظ أنني أوقع في بعض ما أكتبه باسم (فلان الفلاني)؛ أشار بأن أذكر اسم أبي، وقد ختم إشارته تلك بأن في هذا اعترافا بفضل الأب، بما يعني أنه منتبه تماما لهذه التفاصيل الصغيرة. والحق أنني شممت من كلامه روائح العتاب أن نسيت ذكر من لا ينبغي أن يُغْفَل، والاعتراف بجميل من له وافر الفضل؛ فجزاهما الله عني خيرًا..


(105)
إحسان
أعرف شخصا، كلما دخل دورة مياه -أكرمكم الله-؛ بالغ في تنظيفها حتى لا يلقى الآتي بعده ما يكره هو أن يلقاه عند دخوله!
وأعرف شخصا يأنف من دخول دورات المياه العامة، ولا سيما تلك التي تكون على الطريق؛ لما يجد فيها من القذارة وعدم اكتراث الناس بنظافتها، ويؤثر أن يصبر حتى يصل إلى بيته أو إلى مكان لا تكون دورات المياه فيه عامة كتلك..

فلو أن كل داخل إلى دورة مياه عامة، فعل كما يفعل صاحبنا الأول؛ لأحسن إلى أمثال صاحبنا الثاني أيما إحسان، ولا سيما إن كان فيهم المضطر أو المريض.
فإن صنيعه البَرَّ هذا، ربما يكتب له به الأجر، حيث جنب الناس أحد الصبرين المُرَّين: الصبر على المعاناة والألم، أو الصبر على قذارة المكان!


(106)
قنديلان
في المكان الذي تتبدد فيه ظلمات الأرواح؛ كان القنديل يجاهد ويجود بنفسه في سبيل تبديد ظلمة المكان. وكانت روح (محمد)، تحلق في هذين النورين بأجنحة نورانية، يعرفها المنيرون أمثاله. كانت الصلاة صلاة العشاء، وقد أنهى الناس صلاتهم في المسجد. خرج الناس كلهم، وآثر هو أن يبقى قليلا في صحبة كتاب يطالعه..

في زاوية من المسجد؛ كان وكيل المسجد يحسب الدقائق، لينصرف هذا الشاب، فيطفئ القنديل، ويأوي إلى بيته، ولكن انتظاره طال..
طال كثيرا، حتى أقامه من مكانه، فأوقفه على رأس هذا الشاب الخليلي القادم من سمائل:
-       ماذا تريد؟
-       أريد إطفاء السراج -رحمك الله-، وأن آوي إلى البيت..
-       وأنا أريد المطالعة.. سأكفيك إطفاءه، توكل على الله.

ظن الشاب أن الوكيل قد صدقه فيما قاله، ومضى إلى حال سبيله، ولكن إن هي إلا دقائق يسيرة حتى فوجئ به مرة أخرى واقفا على رأسه!..
-       قلت لك إنني سأطفئ السراج.. ما الذي يدعوك للوقوف هكذا؟
-       لقد ذهبت بالفعل، فمكثت في فراشي نائما حتى حان وقت صلاة الصبح، وها أنا قد عدت مرة أخرى!..
قال الشاب الذي سيُعرف فيما بعد باسم (الإمام محمد بن عبدالله الخليلي):
-       سبحان الله ما شعرت بذهاب الليل!


(107)
في أيهما سأكون؟!..
بعد صلاة العشاء خرج من المسجد، فوقف على مفترق الطريق، فرأى ما كاد يشيب له شعر رأسه.. "لقد رأى من آيات ربه الكبرى" إذ رأى في مفترق الطريق المادي معادلا رمزيا لمفترق حظ الفريقين من الناس يوم القيامة: "فريق في الجنة وفريق في السعير"..
لم يستطع أن يفارق المكان، فمكث فيه ليلته تلك، يسأل نفسه: في أي الفريقين أكون؟..

أما الرجل؛ فهو الشيخ سعيد بن حمد بن عامر الراشدي، من أهل سناو، وأما الطريق الذي انصرف إليه؛ فقد كان طريق العلماء الصالحين المصلحين، وما أجدر مثله بمثله.. رحمه الله، وعفا الله عنا إذ نسير فلا نتدبر، وننظر فلا نتفكر، ونسمع من العظات فكأننا لم نسمع من أحد، ونطمع في الملذات فلا ننتهي عند حد، ملأنا بـ"ولا تنس نصيبك من الدنيا" مجالس الأتراح والأفراح، ونسينا كون الدنيا -حتى في أحسن أحوالها- "هشيما تذروه الرياح"..

-       اللهم اعفر وارحم، وتجاوز عما تعلم..


(108)
الراغب عنا
ذكرناه فرغبنا فيه، ولكنه ذكر غيرنا فرغب عنا. وزرناه في بيته، فتزاور عنا إلى بيت غيره. وقلنا له: قصرنا فيك يا عم، فقال: ما أكثر ما قصرت في جنب نفسي!!
-       ماذا تقولون في رجل كهذا؟!..
خليقٌ بكم أن تقولوا: بارك الله فيه؛ فقد قطع الرجل الصالح على نفسه عهدا مع الله؛ أن يعجل إليه ليرضى..

كان الوقت قبيل دخول صلاة الظهر بشيء يسير، ولم نجد فرصة لزيارته غير ذلك الوقت. وكان من عادته أن يتقدم إلى الصلاة قبل دخول وقتها، فيؤذن، ويمكث في المسجد ما شاء الله له أن يمكث: قارئا، ومصليا، وذاكرا.. ولم يكن ليسمح لأي أحد -مهما كانت منزلته منه- أن يُفْسِد عليه خطته التي اختطها مع الله، منذ زمن طويل..

وبرغم ما شكاه لي من قلة زيارة بعض أرحامه له، وما حكاه من سعادته بمن يزوره منهم، وما يُبْديه من محبةٍ -لا أشك فيها- لي ولإخوتي؛ فإن كل ذلك لم يكن كافيا ليستبقيه في البيت حين فاجأته زيارتنا في وقت عوَّد نفسه فيه أن يكون في بيت الله..
حدث ذلك غير مرة، وفي فترات مختلفة؛ فما هي إلا أن يُنْهي معنا كلمات التحية؛ حتى يستأذن ويدعنا مع أهل البيت -ولنا فيهم قرابة-، قائلا إن هذا وقت الصلاة، وإنه ذاهب للمسجد!

ولقد ذكر لي مرة، في سياق حديث ما؛ أنه لا يذكر أن صلاةَ جماعةٍ فاتته!!..
قال، وقد جاوز السبعين الآن: آن لنا أن نستدرك ما فات.. لقد قصرنا كثيرا فيما مضى من الزمان!


(109)
جبر خاطر
نشأت بيني وبين زميلٍ لي في بعض مراحل الدراسة النظامية صداقة، وكان يسكن في إحدى القرى المجاورة لقريتنا. زرته مرة في قريته، وكان أَحَبَّ إليَّ -نظرا لأمور كثيرة- أن نلتقي خارج البيت؛ رفعا للكلفة ومنعا للحرج الناشئ من الطقوس الرسمية، ولا سيما أنني لم أكن أتقن بعد كثيرا من الجمل والأعراف التي يتعين الإتيان بها في مثل هذا السياق..
حين وصلت القرية، فوجئت بأنني داخل البيت، وجهًا لوجهٍ أمام أبيه الذي أراه لأول مرة. لم أكن في أحسن أحوالي -بالتأكيد-، وربما ظهر شيء من هذا على وجهي وطريقتي في الحديث، على رَغْم ما أبداه الأب من لطف بالغ في استقباله وكلامه.
حين عَرَّفني صديقي إلى أبيه؛ قال الأب بنبرة هادئة مُرَحِّبة، وابتسامة صافية تملأ وجهه: "هذا إذن ولد (صديقي) علي"..

هذه العبارة؛ كانت المعول الذي هدم جدار الرسمية، والعصا التي أقامت لي سبيل الكلام وأزاحت عني ثِقَل ما سبق اللقاء من هواجس وتوقعات. وبقدر ما طارت بي لحظتها: إذ خفَّفت عني، وإذ أمَّلتني بوثوق عُرَى الصلة بيني وبين صديقي؛ فإنني -الآن بالقدر نفسه، وبعد مرور زمن طويل- أجد فيها جناحين صالحين: إذ علمت أن الرجل الكريم ما أتى بها على وجه الحقيقة، بل إحسانًا منه في استقبالي، وأنْ ليس بينه وبين أبي إلا التعارف العام، كما هو الشأن بين الجيران أو أهل القرية الواحدة أو أهل القرى الصغيرة المتجاورة.. لقد اختار الرجل الحكيم -إذن- عبارته بعناية بالغة، وكان واعيا -بلا ريب- بما تحمله من سحر في مثل هذه اللحظة!

مَرَّ على هذا الموقف -حتى لحظة كتابة هذه السطور- أكثر من (20) سنة، وقد غيَّب الموت قائل العبارة والمقولة فيه، ولست أدري كيف ثارت فجأة من بين ركام الذكريات.. تذكرتها اليوم، فأعدت النظر فيها، فإذا هي منهج صالح في إزالة الحواجز بين الناس، وجبرِ الخواطر وترميمِ النفوس، وحُسْنِ استقبالِ الضيوف وفاتحةِ إكرامهم، وقل ما شئت عن أثرها في تجميل بيئة الكلام وإشاعة السلام!


(110)
سنفتقدهم..
سنفتقدُ هؤلاء (الشيّاب) يوما ما.. أعني أننا سنشعر بحجم الفراغ الذي خلفوه من بعدهم يوم أن يغيب عن الحياة أسلوبهم في الكلام والألفاظ التي يتداولونها في تفاعلهم مع مكونات الحياة.. سنفتقد الوقع الطريف لبعض الكلمات الفصيحة التي أعادوا تشكيلها لتناسب مجرى اللهجة.. سنفتقد هؤلاء الشيّاب الرائعين لأن لهم طرائقَ جميلةً في الكلام، تزيده حلاوة وتفعل الفعل العجيب في ربط السامع بموضوع الحديث، كما أنها تكشف في بعض الأحيان عن خُلُقٍ جميل، أو ترابط اجتماعي عميق، أو معيشة صعبة..
يدخل أحدهم بيتا ما فيقول: (هود هود) علامةَ الاستئذان والتنبيه لأهل البيت، ويرد عليه صاحب البيت: (قْرَب)، فإذا جلسا في (السبلة) مضيا في حديثٍ أَوَّلُه: (ماشيء علوم؟) -(تسلم وتدوم)، (ماشيء أخبار؟) –(سْكون) أو (ساكنة الحوادث)، وأحيانا يكون الرد إبداعيا، فيُقال: (كوسٍ هابّة وغديرٍ صافي). ثم يأتي السؤال عن بقية الأهل، فتخرج جُمَلٌ من مثل: (ما حد يعوره شيء) أو (ما حد متعاضل من شيء). وفي مثل جلسة هذين، تنتشر كلمات كثيرة وجمل تعالج مواقف متعددة، كأن يقبل أحد أطفال البيت إلى هذا المجلس فيقوم الزائر له أو ينحني مُقبّلاً إياه، أو أن يُزيل أحدهما القذى عن ثياب آخر، أو شيئا من هذا القبيل فحينئذ يقولون: (الله لا يصغرك) والجواب (ما على الأجاويد صغران)، أو أن يتطرق أحدهما في حديثه إلى شيء ينبغي الترفع عنه، فيقدم له بكلمة (تِكْرَمْ) ويرد الآخر: (وانته كريم).
وعند انتهاء الجلسة يفترق الزائر والمزور بمثل هذا: (فْ خاطرك شيء؟) –(عزيز وغالي) أو (ما عنكم غناة) أو (سلامة رأسك)، وهنا قد يصر صاحب البيت على أن يتناول الزائر الغداء معه، فيرد الآخر: (غَدانا محْتاز).
ويحكي أحدهم الحكاية فتتكرر على المسامع أمثال هذه المفردات: (قال يقول) ليخبر السامع بمقول أحد أشخاص القصة، وكلمة (تسمع) يستخدمها لاحقةً لفقرات القص أو لازمة في ثنايا الكلام دون ترتيب منتظم، كأنما ليتأكد فقط أن المستمع ما زال منتبها لما يقول.. ويتفاعل السامع منهم مع المتحدث، فيقول لحظة الاندهاش والاستغراب: (اسمع) يكررها ثلاث مرات متسارعة..
وتجلس إلى أحدهم فيشهد أو يسمع عن موقف طيب، فيُعبِّر عن نشوته بصوت يخرجه غالبا من الأنف (إه إه) أو (هـُ هـُ) كأنه يقول: ما شاء الله!.. وربما كان الصوت نفسه مع تغيير في جرسه وقوته تعبيرا ساخرا عن عدم الرضا ممن يقول أو مما يقال.. وقريب من هذا صوتان يعبر بهما أحيانا عن الاستغراب: (أَيْ ها)!
ولصاحب المولود الجديد يقولون: (نعمت بالزايد)، وللعائد من السفر أو الناجي من حادث: (استاهلت السلامة)، وفي أيام المطر يقولون: (نعمتوا بالرحمة) فيكون الجواب (رحمْةٍ بادّة)، وفي عتبهم على من يحبون يقدمون أحيانا بقولهم: (بعيد الشر)، وفي أدعيتهم على من يكرهون تسمع منهم أمثال هذه الجمل: (الله يصرفه صَرْفَة) أو (الله يِـخْلِيه خَلْيَة) أو (ضْعيف الطبع) أو (سْويد الوجه) أو(الحصيني)، وعند حث الركب على التعجيل -وأكثر استعمالها عند أهلنا من البدو-: (الليل الليل)!
سنفتقد –حتما- لغة شيّابنِا الرائعين هذه.. وسنفتقدها أكثر عندما تسمع اليوم من يجيبك إلى شيء فيقول: (اوكي) وكان آباؤه يقولون: (انزين) أو (فالك طيب)، ومن يتعجب من شيءٍ فيقول: (واو) وكان أجداده يقولون: (اسمع انته) أو (شوف انته)، ومن يشكر لك حسن الصنيع فيقول: (ثانكس) وكان شيّابُه الرائعون يقولون: (تْجَمَّلْت) أو (جْمِيلك واصلْ)!


(111)
مندوبات المحبة
دعاني مرةً، وبعضَ الأصدقاء؛ صديقٌ لنا لزيارة الشيخ سعيد بن خلف الخروصي، رحمه الله، فزرناه في بيته، وقد أتى العمر والمرض على كثير من صحة جسده وعافيته. وكانت تربط الشيخ بوالد صديقنا هذا صلة وثيقة ومحبة أكيدة، فسأله عنه، إذ علم بسفره إلى وجهة ما؛ فأجابه، ولكني لا أذكر تفاصيل جوابه الآن.. إنما الذي أذكره تماما -وهو الداعي لكتابة هذه التدوينة- أن الشيخ أعَقَب سؤاله بسؤال من مثل هذا: هل اتصلتم به فتأكدتم من وصوله؟!..

لفت انتباهي أن الشيخ لم يكتف بالسؤال والجواب، عملا بالعُرْف الاجتماعي مع شخص يحبه ويعرفه، ولكنه عقَّب على جواب صديقنا بسؤال أراد منه أن يطمئن أكثر على عزيزٍ عليه، اطمئنانَ الأم أو الأب أو أحدٍ مثل هذين من أفراد الأسرة؛ وذلك -لَعَمْرُ المودة- درس جميل في طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تكون بين إخوان الصفاء وخلان الوفاء، بل بين المتحابين كافة..

يقول لنا هذا الموقف الصغير شيئا كبيرا ومهما في تقوية بنيان العلاقة بين المتحابين. يقول لنا شيئا من مثل: إن في العلاقات بيننا وبين أحبابنا واجباتٍ ومندوبات، وكما أن الواجبات هي التي تؤسس العلاقة وتضمن استمرارها؛ فإن المندوبات تضمن حيويتها في مدى واسع، بل ربما وفَّى المندوب بما قصَّر عنه الواجب، وربما كَمَّله، وربما جَمَّله؛ فتأمل وانتبه!


(112)
أنا أحبك يا بني!
عوَّدت أبنائي على أن أقول لهم بين الفترة والأخرى هذه العبارة: "أنا أُحِبُّكِ يا ابنتي/ أنا أحبك يا بُنَيّ"، ولقَّنْت كلاَّ منهم –بُعَيْدَ قدرته على نطق الجملة الطويلة- أن يكون جوابُه عليها: "أنا أحبك يا أبي"، وقد نجحنا –بحمد الله- في هذا الأمر.. فمن ثَمَّ أكسر الصمت أحيانا –في البيت أو السيارة أو حتى في المكان العام- بهذه الجملة التي أنتشي بتمريرها عليهم واحدا واحدا، منتظرا جوابهم الذي يتنزل عليَّ رضا وسرورا وسلاما. ورغم تكرار الإجابة على مسمعي بالكلمات نفسها والترتيب ذاته؛ فإن اختلاف أصواتهم الصغيرة بها، وأخطاء النطق الطفولية عند بعضهم حين يأتون بها –وربما لأمر آخر لم أتبيَّنه بعد-؛ يُنْزِلها مني منزلة الكلام الجديد الذي أسمعه لأول مرة. كأنما هو شيء جديد لم يسبق أن حدث من قبل، وكأنه النوايا الطاهرة البريئة تتوجه لأمر جميل.

كان في ذهني، وأنا أخترع هذا الأمر (يحلو لي أن أسميه هكذا)، أن أُشْبِعَهم من سماعها، وأن يكون لديهم ارتواء كافٍ منها؛ فلا يتطلَّعون إليها عند غريب تسوقه غاية غير محمودة العواقب، ولا يتسوَّلونها عند حبيب يضِنُّ بها عن جهل أو طبيعة نفس، وأن تكون أحد الروابط التي تربطني بهم على الدوام؛ فإذا التقينا وجها لوجه كانت حاضرةً بالتخاطب المباشر، وإذا افترقنا -فكان بيننا تواصل باتصال هاتفي أو مرئي، أو برسالة صوتية أو مرئية-؛ كانت جملة لازمة في مخاطبة كل واحد منهم، وتذكيره بذكريات تجمعنا!

ثم تطور الأمر إلى أن قمت بتأليف أنشودة بسيطة ذات مقاطع تتضمن هذه العبارة، بحيث نتعاور على ترديدها بنظام معلوم يتلاءم مع اللحن والإيقاع. وغالبا ما نفعل هذا حين نكون في السيارة، لاسيما في الرحلات الطويلة؛ فمَنْ يستمع إلينا يحسبنا (الجَوْقَةُ) تستعد لحفل كبير. لاحظت أن بعضهم يضيف عليها حين الترديد ألحانا غير التي لقنتهم إياها، ويعززها بزخرفات في اللحن –كمثل تلك التي يسمعونها في أناشيد (قناة طيور الجنة)- بما يكشف عن شعورهم بالانتماء لها وحبهم لأن تكون لهم بصمة واضحة فيها!

واتصلت ذات مرة بأمهم، وقد كنت خارج البيت؛ وتحدثت إليهم واحدا تلو الآخر، فنسيت أن أقول جملتنا المعهودة للزهراء التي تحدثت إليها أولا، فطلبت إلى أمها أن تعطيها الهاتف بعد إنهاء حديثي إلى أخويها اللذين ختمت كلامي معهما بجملتنا المعهودة، وقالت: "باباه.. ما قلت لي أنا أحبك يا ابنتي"!

أتخيّل أحيانا؛ كيف سأقول لهم هذه الجملة –إن مدَّ الله في العمر- وهم كبار قد جاوزوا سِنَّ البلوغ، ثم وهم متزوجون، ثم وهم آباء وأمهات يُقْبِلون عليَّ بأولادهم؛ فأجد أنها ستزداد عذوبة ولطفا، وأن وقعها وأثرها سيعظم في نفسي ونفوسِهم، فأحمد الله أنني استعددت لهذا الأمر من الآن؛ لأنها قد تكون فَجّةَ الوقع والأثر إذا جاءت لاحقا مبتورة من سبب أو نسب عريق كهذا..



(113)
انطباعات
يحدث أحيانا أن تتولد لدينا انطباعات سلبية عالية، وربما تتطور إلى مشاعر غير ودودة تجاه أشخاص لم نعرفهم من قبل.. لم نلتقِ بهم في مكان، ولم نسمع لهم حديثا في وسيلة من الوسائل، ولم نقرأ لهم ولم نقرأ عنهم!!
هذه المشاعر والانطباعات تكونت بأثرٍ من أشخاص آخرين عرفوهم عن قرب بوسيلة ما، وخبروا أفعالهم وأقوالهم؛ بما قد يؤهلهم لإطلاق حُكْمٍ ما عليهم..
ثم تمر الأيام، فتتاحُ لنا –بشكل أو بآخر- فرصة التعرف عليهم أكثر.. بالاطلاع على نتاجاتهم وأخبارهم إذا كانوا من أهل الثقافة والسياسة والاقتصاد وغيرها، أو بلقاء مباشر في مكان عام أو خاص إذا كانوا من الأشخاص الذين يكثر أن نلقاهم في حياتنا اليومية؛ فتتغير نظرتنا إليهم بشكل كامل، وتتحول مشاعرنا تجاههم إلى النقيض تماما مما كانت عليه سابقا..
ندرك حينها أننا وقعنا في خطأ فادح، حين لم تكن انطباعاتنا تلك مبنية على أساسٍ قويم ولم يكن يحتويها منهج سديد.
كم ظلمنا (هذا) حين جعلناه أسفلَ سافلين، وكم كنا مفتونين بـ (ذاك) حين رفعناه إلى أعلى عليين!! كم حرمنا أنفسنا من فضل (هذا) حين جعلنا نتاجه الفكري ضلالا مبينا، وكم أوقعنا أنفسنا في ورطة حين جعلنا نتاج (ذاك) حكمةً بالغة!!

إن الحكم على الشيء فرعٌ من تصوره –كما يقول الأصوليون-، وإن التصور (هنا) يعني أخذ الصورة الأصلية الكاملة غير المجتزأة والمعدلة بأدوات الآخرين..
إن تجاربنا الشخصية، واطلاعاتنا الذاتية على المحيط من حولنا؛ يجب أن تكون المصدرَ الأصيل لقناعاتنا الثابتة!


(114)
أنا والسيارات
في زمن الطفولة، أذكر أني سميت دراجة لي (المطارد). أردت أن أقيم علاقة وجدانية بيني وبينها رغم كونها جمادا. وعندما بدأت مرحلة السيارات في حياتي، دأبت على وضع اسم لكل سيارة للهدف ذاته..

سميت أول سيارة اقتنيتها (الجبل). خرجت من رحم هايونداي وسماها الكوريون (أكسنت).. هل تذكرونها، تلك الصغيرة الحجم؟ كانت بيضا اللون، وكنت أقول لمن يركب معي: "هذي جبل.. ويا جبل ما يهزك ريح" .. عاش (الجبل) معي سنة أو أكثر.. وأذكر أنني لم أشتك منه إلا رجَّةً بسيطة كانت تعاوده كلما اقتربنا من الدوارات المرعبة بعد سرعة معينة! وبعد أن عالجت هذا الخلل بمساعدة أصدقائنا الهنود، عاد (الجبل) جبلا لا تهزه الريح و لا ترعبه الدوارات ..
أكثر الظن أن الجبل لم يشتك مني أيضا فقد عاملته بالحسنى وكنت حريصا على رعايته كل 5000 كم، ليس في كراجات القرية، بل في محطة بريستشن تيون المعروفة، متحملا في سبيل ذلك السعر المرتفع بالمقارنة مع أسعار الكراج العريق في القرية الذي كان يديره (بابو) إلى فترة قريبة.

زادت (الفليسات) و(كبرت العزبة) كما يقولون وبعت الجبل بثمنه الذي اشتريته به إلا خمسين ريالا. لقد أسرني بوفائه!.. لكني وجدت حُسْنَ العزاء فيه لأن من اشتراه هو أحد الأصدقا!
على إثر الجبل، جا (الشامخ) الذي كان من أصول يابانية. خرج من رحم ميتسوبيشي وأسمته (جالانت).لم سميته بهذا الاسم؟
كان فيه شي من الشموخ، ودلتني سيرته العطرة التي حكاها لي صاحبه الأول، وهو أحد الأصدقا، على عَظَمةٍ، عبر عنها أحد الهنود بقوله " هذا رقم واحد.. نفرات عماني فكر تويوتا بس زين" سألته عن سبب هذا التفكير لدى العمانيين دون غيرهم، فأجاب غير هَيّاب ولا متلعثم: "عماني تليفجن دائما قول: تويوتا بس تويوتا بس"!!
كانت لي مع الشامخ صولات وجولات، ذهبت به مرتين إلى صلالة، ويبدو أني لم أدشن خط الإمارات إلا متأخرا وإلا لكنت ذهبت به إليها.. وكان رفيقا حسن السيرة طيب السريرة، يرضى بالقليل، ويحمل عنا الكثير، فأحبه جميع من في البيت ونظروا إليه على الدوام بإجلال واحترام.. لكني بعته أيضا!

حدث هذا عندما زادت (الفليسات) و(كبرت العزبة)، وقد كدت أبكي عندما قفلت راجعا من سوق نزوى ومعي ألف وسبعمائة ريال عوضا عنه. قال لي بعض إخوتي مستنكرا: أتبكي على سيارة من حديد؟!
ذكرت حينها ما سمعته عن شيخنا الجليل حمود بن حميد الصوافي -حفظه الله- حين طلب إلى بعض طلبته أن يحمله على سيارة قديمة له. وكان السائق قد هَمَّ إلى سيارة جديدة طرأت في البيت، ويبدو أنها كانت المفضلة عند كل من يحمل الشيخ إلى شؤونه المختلفة.. قال الشيخ حين سئل عن سر عودته إلى سيارته القديمة أحيانا، قولَ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الرفق على كل شي"...

وجاءت من بعد الشامخ سيارات أخرى، سميت كلا منها باسم؛ فـ (كامري) الفضية سميتها (حماس)، وقد كانت جديدة لم يسبقني إليها أحد، أخرجتها من الوكالة (بقرطاسها) -كما يقولون- وكنت أشعر بحماسة غير عادية تجاهها. و(سبورتاج) الكحلية سميتها (العروس)، ربما لأنها استخدامها -أولَ ما اشتريناها- كان في نطاق ضيق محدود. و(كوراندو) الفضية سميتها (لوفة) أخذا من قولهم في وصف من يسرع إلى أمر: "باغي لوفة بس"، فكأنها لا تحتاج إلى (اللوفة) لأنها هي نفسها (اللوفة)/ (اللوفة: اللمسة). و(أرمادا) الحمراء سميناها السيح الأحمر؛ فهي كما تعلمون كبيرة مبسوطة كأنها السيح. و(أوبتيما) اللؤلؤية سميتها (شعاع)، وهو اسم شارح لذاته، كما تعلمون..

أحب أن أعيش هذه العلاقة الحية مع السيارات؛ فكم أظلتني كل واحدة منها من حر، وكم أدفأتني من قر، وكم حملتني في البر؛ فإنهن -لعمر الوفاء- جديرات بالبر..
وبعض البر هنا هو أن نتعامل بمشاعر إيجابية مع هذه الجمادات، التي –وإن كانت لا تشعر، فإنها- تبعث الحياة من حولنا جميلةً وسهلة العيش؛ وهو الشعور بالامتنان لوجودها في حياتنا فنرد لها الجميل بإحسان التعامل معها؛ وهو المستوى الراقي جدا -الذي أدعوكم ونفسي إليه- في إنسانية الإنسان!


(115)
فبهداهم اقتده
يصلي بنا أحد جيراننا؛ فلا ينسى أن يدعو -وهو يستقبلنا بعد الصلاة- لمن أحسن إلينا بجميل أو دلَّنا على خير..
تلك انتباهةٌ نغفل عنها كثيرًا، مع أنها قد تكون خير ما يُجزى به محسنٌ خالصُ النية عن إحسانه..
ومن ذلك (مثلا)؛ أن شابين وقفا لي مرةً على طريق تعطلت سيارتي فيه، فوجدتُني أتفرج عليهما كأنني أنا من وقف للمساعدة. لقد أصرا على إصلاح العطل بنفسيهما -وكان الإطار-، وكلما أردت القيام بشيء صرفني أحدهما عنه، وأبى إلا أن يقوم به بنفسه..
وأكثر من هذا أنهما عرضا عليَّ -قبل هذا- سيارتهما الفخمة، قائلين: "لديك مشوار بعيد، ومعك أسرتك، فنرى أن تأخذ سيارتنا هذه، وسنلتقي حين عودتك. بيوتنا قريبة من هنا، توكل على الله"..
لقد هزني جواب أحدهما، وكان هو صاحب السيارة، وقد تبينت من سؤاله أنه ابن أسرة كريمة معروفة، إذ سألته حائرا ما أقول: بم أجزيكما؟.. هزني جوابه قائلا: حسبنا أن تقول: جزاكما الله خيرا..!!
وعودة على جارنا العزيز؛ فإن ما يلفت انتباهنا إليه، بوعي أو بدونه، عمل من أعمال البر، لا ريب في ذلك؛ فمن ثم أقول لنفسي أولا: "فبهداهم اقتده"!..


(116)
فلسفة الصغار
في مرحلة ما من عمره؛ عرف (أسامة) أن الله قادر على كل شيء، بما يعني أن كل الأماني والأحلام يمكن أن تتحقق من خلاله. وفي يوم ما استحضر هذا المعنى، وكان –فيما يبدو- يود استرضاء أمه بعد أن غضبت عليه أو على أحد من إخوته؛ فقال لها، وهو يحيط وجهها بيديه الصغيرتين، ويَعِدُها بهديةٍ فخمة: ماماه.. لما أكون (الله) سأشتري لك سيارة كبيرة، أو كما قال –عفا الله عنه-!
كان وقع الجملة مضحكا في تلك اللحظة، وكنت وأمه بين إعجاب –نُسِرُّه- بهذا الربط، واستغفار –نجهر به-  حتى يعلم أن هذا التركيب غير صحيح..
وكان وقع هذه الجملة –فيما بعد- مدعاةً للتأمل في كلام الصغار؛ كيف يمارسون طرفا من الفلسفة أو الربط العجيب بين المقدمات والنتائج!
هذه الأسئلة والأجوبة التي يفاجئ بها الصغير والديه، بحيث يبدو أكبر من عمره وأعمق تفكيرا مما هو متصور حول مستوى تفكيره؛ تجعل الواحد منا يحار أحيانا إن كان هذا الجواب علامةً على النبوغ المبكر أم علامة على جهله هو بما يملك الصغار من إمكانات تخفيها عنه اشتغالات اليوم وأحوال النفس هنا وهناك!
ما تزال ترن في أذني تعبيرات نطق بها أولادي في مراحل مختلفة من حياتهم. حدث هذا أمامي مرات، كما يحدث أمام كل أبوين مرات كثيرة، في مراحل مختلفة من أعمار أولادهم.
ومن ذلك؛ أن (الزهراء) كانت تقول للشيء يستعصي عليها جذبه: (تعال) كأنه يسمع ويعقل. يبدو التركيب مضحكا، لكن التأمل العميق يحيل (مثلا) إلى أن هذا هو جوهر (قانون الجذب) الذي يتحدث عنه المهتمون بتنمية الذات.
أما (المهند) فقد كان في يوم ما غاضبا مني؛ لأنني لم أشترِ له هدية أرادها وأصر عليها، فقال لي: أنت لا تحبني.. ومن الآن سيكون اسمي هو: المهند بن (خفي) بن علي.. لا مكان لك.. أنا وجدي فقط! .. هل كان الصغير يعبر من حيث لا يشعر –أو (ربما) يشعر- عن أن المحبة تثبتها أو تنفيها الأفعال فحسب، أم أنه كان يرمي إلى أن حضور اسم أبيه في اسمه دلالة على محبة أبيه له، وحيث إنها اختفت في هذا الموقف فليس من المبرر وجوده!!.. الله أعلم.
وزرنا أحد أعمامي يوما، فانطلق (المهند) مباشرة هو وبعض إخوته وأبناء عمه يلعبون في ساحة المنزل بألعاب هناك، أما نحن فكنا في المجلس نتناول القهوة، ثم لم تمض إلا دقائق معدودات حتى انفصل عن أترابه وجاء للجلوس معنا، فقال له العم: ما بالك تركتهم، ألا تحب اللعب؟ فأجاب –كما ينطق الحكماء: بلى، ولكنها الحياة.. مَرَّةً لَعِب، ومرةً راحة!
ومثل هذا كثير عند كل الصغار عموما، ولكن عدم الانتباه إليه في حينه يحيله إلى زاوية مهملة في الذاكرة. إن تدوينه وحفظه، وتذكيرهم به فيما يأتي من الزمان، في لحظة مناسبة؛ له وقع لا ينسى. ربما تلهم الإنسانَ الكبير في مرحلة من مراحل حياته كلمةٌ أو جملة قالها وهو صغير، ولئن كان في صغره لا يفقه مراميها البعيدة فضلا عن معانيها القريبة؛ فإنه سيقف منها –وهو كبير- على معاني جليلة تبعثه خلقا آخر أفضل مما هو عليه، ولذلك قال الحكماء: "رب كلمة أيقظت همة فأحيت أمة" أو كما قالوا!


(117)
دعوها فإنها منتنة
في مراحل الدراسة الابتدائية علمونا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنها منتنة"، وقالوا لنا إن الحديث مقصود به النهي عن إثارة النعرات القبلية لأنها دعوى جاهلية. لكن هذا الحديث المذكور يستخدمه بعض الناس في التحذير من النعرات المذهبية أو الحزبية، وكنت – إلى وقت قريب – أجد أنه استخدام في الموضع الخطأ.
أما الآن، فأجد أنني كنت مخطئا وأن استخدامه كان صحيحا. لقد اتخذت القبيلة والقبلية أسماء مختلفة، اعتقد الناس أنهم يفرون بها من الجاهلية، فظهرت أسماء من مثل المذهب والنادي والجمعية والحزب والدولة، وغيرها.

ومن يتأمل في كثير من الحوارات والمناقشات التي تدور في أرجاء الفضاء الإلكتروني أو في الواقع الطبيعي، لا سيما تلك التي تجري بين أتباع المذاهب الإسلامية المختلفة؛ يلمس حتما –في الغالبية العظمى منها، وليس كلها- أن كل طرف متمسك بما هو مقتنع به، وأن الهدف لم يكن -من الأساس- إلا الانتصار للذات المذهبية وما يتصل بها من قناعات وأفكار، ولم يكن أبدا البحث عن الحقيقة، ومعرفة ما لدى الآخر من حجج وبراهين سوَّغت له الإيمان بما صح عنده!

أحد شواهد الانتصار للذات المذهبية التي تُلحظ بجلاء؛ تكون حين يدافع هؤلاء المذهبيون عن كل من ينتسب إلى مذهبهم، حتى لو كان ذلك المنتسب لا يتمثَّل الكثرة الكاثرة من تعاليم الدين الحنيف المتفق عليها بين المذاهب الإسلامية المعروفة، وإنما لأنه يتبنى رأي المذهب في الأمور التي اختلف فيها مُنَظِّروه مع منَظِّري المذاهب الأخرى، أو لأنه يُنسب بحكم التربية والنشأة إلى هذا المذهب؛ فصار بذلك كأنه فرد في قبيلة، وصار لزاما على القبيلة ألا تتخلى عنه!!

والأمر يقال مثله في تجمعات صغيرة وكبيرة تضم أصحاب الهواية أو المهنة أو السياسة، الأمر الذي يطرح سؤالا مهما، وهو: هل ظهرت المذاهب (مثلا) لتكون حلا لمشكلة قبائل صغيرة شعر أفرادها –في فترة ما- بأنهم قليلون في مواجهة قبائل أكبر، فصاروا إلى فكرة (الحزب) أو (الحلف)، حتى يسوغ أن ينتمي إليهم حتى من لا يرتبط معهم بالنسب؟.. والجواب بالطبع (لا) لأن المذاهب ليست إلا مناهج فكرية لمصلحين أوائل ظهروا في فترة من الفترات، فساروا في الدين على حسب أفهامهم لتعاليمه، يقصدون من ذلك الخير والإصلاح، ولم يكن في وارد تفكيرهم التفريق بين أبناء الأمة، بل نحسبهم –والله حسيبهم- أنهم كانوا مشغولين بأن تجتمع الأمة على كلمة سواء، وأن تسير على صراط مستقيم..
لكن الأجيال المتعاقبة من أتباع أتباعهم فهمت –بقصد أو بجهل-أن منهج المصلح ليس إلا حزبا، وأن الانتماء إليه ليس بالضرورة أن يكون بـ (التزام الفكرة) التي نهض من أجلها المؤسس الأول بل يمكن أن يكون بـ (التزام الحضرة) – إن صح التعبير -.. والمقصود بـ (الحضرة) هنا؛ الشعور بالحزبية والانتماء لكل من ينادي باسم الحزب.

إن هذا من البلاء الفكري الذي يتعين على المصلحين من أعلام المذاهب الإسلامية، وغيرها من مذاهب السياسة والفكر؛ إصلاحه، وتوجيه المنتمين إليهم بأن الجامع بينهم هو الانتصار للفكرة النبيلة والالتزام بها فحسب، وتعزيز القيم التي تؤلف بينهم وبين كل من يختلف عنهم، في إطار من التسامح والإنصاف.


(118)
أخلاق الكبار
مرات قلائل، لا تجاوز أصابع اليد فيما أحسب؛ تلك التي جاد بها الزمان عليَّ لحضور مجلس من مجالس شيخنا الجليل الشيخ سعيد القنوبي حفظه الله، والسماع منه مباشرة دون وسيط.

ومنها مرةٌ كانت -على أكثر الظن-، في سناو. كان الشيخ سعيد في زيارة لشيخنا المربي الشيخ حمود الصوافي، وكان يتحدث عن أمر ما، فعاتب نفسه في شيء من تفاصيله، وانتهى إلى أن قال: "ذلك سوء خُلُقٍ مني"!

ظلت هذه العبارة ترن في أذني طوال ذلك اليوم؛ ليس لأنها دلَّت عندي على تواضع الشيخ، بل لأنني -على الأرجح- وجدت فيها شيئا جديدا لم أكن منتبها له من قبل.. كان هذا قبل نحو (20) عاما من الآن. 

كان المعتاد في كلام كثير منا؛ أن يقول أحدنا إذا عاتب نفسه، في مثل ذلك السياق: (ذلك سوء أدب مني).. مثلا، ولكن الشيخ اختار أن يسند السوء إلى الخُلق لا إلى الأدب؛ والفرق -فيما بدا لي يومئذ- أن إسناده إلى الخُلق هضم لنفسه أما إسناده إلى الأدب فهو غمطٌ لحق لوالديه إذا قَصَّرا فيما ينبغي من أَدَبِه!

وبيِّنٌ أن أخلاق الإنسان -مهما كان لعناصر خارجية أدوار في تشكيلها؛ فإنها- تمثل استجابته الشخصية، أما الأدب فهو صنيعة غيره فيه، وأول مسؤوليْن عنه هما والداه. وفي الواقع شواهد كثيرة على أبناء يتلقون الأدب والتربية نفسها، فتحسن أخلاق البعض بينما تسوء أخلاق البعض الآخر، بناء على استجابة كل طرف لما يتلقاه..

وإذن؛ فأظن أن الشيخ أراد ألا ينسب التقصير إلى والديه؛ فقال ما قال..  وتلك -لعمري- أخلاقٌ كبار، يعرفها ويستمسك بها العلماء الكبار!


(119)
الصحراء.. دواء إذا تصحَّرت القيم!
حين تدخل إلى بعض المستشفيات، لا سيما في أوقات الزيارة المعتادة، تلحظ مجموعة من البشر، يتخذون من زاوية ما على أحد جوانب مواقف السيارات مجلسا لهم، يفرشون عليه البسط، ويتناولون فيه القهوة والتمر، وربما جلبوا إليه بعض الفواكه، كأنهم في سبلة. وإذا اتفق أن كان هذا المكان تحت شجرة ظليلة، فإنهم يلبثون فيه ليل نهار.. !
إنهم أهلنا من البدو، جاءوا لعيادة مريض لهم في المستشفى، ومؤازرة خاصة أهله الذين يشرفون عليه وقت الزيارة، بعضهم أو كلهم، زرافات أو وحدانا.
كنت أجد في هذا المنظر جانبا من التخلف وبقيةً مما استعصى على المدنية الحديثة، متمنيا أن يزول بمرور الأيام، رغم تعاطفي الإنساني معهم، فما حاجة المريض إلى مرافقين بهذا العدد كأن مريضهم يعالج في مكان منقطع أو بعيد لا يوصل إليه بسهولة، وهل يجد هؤلاء من الفراغ ما يدفعهم إلى ترك أعمالهم وشؤونهم حتى يأتوا لقضاء الأيام والليالي في مثل هذا المكان، فهم فيه كأنهم لاجئون!
ولكن مع الأيام صرفني عن هذا التفكير؛ التنبه إلى أن هؤلاء علمتهم الحياة أبلغ ما يكون التعليم أن الاتحاد قوة، وأن الحمل يخف بين الجماعة، وأنهم جسد واحد يرفع العضو الصحيح منه عزيمة السقيم.. فهم -باختصار- يبعثون برسالة إلى أنفسهم أولا، ثم للمريض، وللناس أجمعين..
فرسالتهم للذات أن الوفاء من شيم الكرام، وهم بوقفتهم هذه إنما يؤدون ما تحملته رقابهم من جمائل أسرة المريض يوم أن وقفت معهم في الشدائد.
ورسالتهم للمريض وأهله، أن لكم في كل بيت من بيوتنا أبا وأما وإخوة، يهتمون لأمركم ويرعون شؤونكم، وهم على استعداد تام للوقوف معكم بالحال والمال (بحسب التعبير الدارج).
ورسالتهم للناس، أن إحساس المريض بأن له أهلا يرعونه، وينتظرون لحظة خروجه سليما معافى؛ هو عنصر فاعل في العلاج. فعواطف أهله النبيلة ومشاعر محبيه الخيرة تصله وهو على فراشه وإن لم يرهم ويتشارك الجلوس معهم، وتنشط فيه عناصر العافية، وأكثر الظن أنه لن يلبث في مكانه من المستشفى إلا قليلا.
لقد حجَّمت المدنية الحديثة –على إيجابياتها الكثيرة- شيئا ليس باليسير من فاعلية القيم الإنسانية، وضيَّقت عليها الخناق، لأسباب في البنى المدنية ذاتها أحيانا، وأحيانا أخرى لأسباب في البشر الذين تفاعلوا معها بغير هدى ولا كتاب منير، أما حياة الصحراء فإنها فتحت الباب واسعا في هذا الجانب، ومازال كل من وطئ الأرض الممتدة المفتوحة يشعر أنه يقرأ في كتاب كبير يعرض لمجموعة لا حدود لها من القيم الإنسانية العظيمة.


(120)
كيف يموت العيد؟..
"-(تموت بعض الأعياد في المدن)..!
خطرت بباله هذه الكلمات، وهو يستيقظ صباح يوم العيد في العاصمة البعيدة عن قريته. كان الصباح غير الصباح الذي اعتاد عليه في مثل هذا اليوم، فلم يتبين الفجرَ وهو يصافح وجوه الناس ويمحضهم بعض دعواته، كما يفعل كل أبٍ مع أبنائه.. أين مصلى العيد الذي يخرج إليه الرجال بخناجرهم وثيابهم الجديدة؟ أين التحايا والابتسامات المنثورات في الدرب إليه؟ أين النوايا الطيبات التي تشع في المحيا، وتُنْبِت الزهور تحت الخطى؟ أين الأطفال الذين يشرقون كما الفجر ويكادون يخرجون من ثيابهم الملونة فرحا بساحة (العيود) -أو (الطلعة) كما يسمونها في قريتهم-؟ أين مواكب الناس التي تسيل من مصلى العيد باتجاه بيوت الأهل والجيران؟!!

أسئلة موجعة طافت عليه؛ لأن كثيرا من تفاصيل العيد التي اقترنت عنده بهذا المفهوم اختفت، فأحس أن العيد قد مات..
هنالك بكى قلبه، بينما صُوَرٌ مختلفة من تفاصيل العيد في قريته الوادعة تنهض أمام عينيه واحدةً تِلْوَ الأخرى..

كان العيد يبدأ من ليلة العيد. يراه في رضا أبيه وإخوته حين يجلب لهم (فَكَّة) جديدة من المصرف، وفي سعادة أمه حين يقسم هو وإخوته (عيدية) ثابتة لجدته وخالاته فيرسلونها معها لهن، وفي ارتياح الأخ الذي لم يتقن (التمصيرة) بعدُ لمعاونة أخيه المتقن له، وغيرها من التفاصيل التي تختص بها ليلة العيد دون غيرها.

وفي الصباح كان (العيد) يتألق بما يجعله يوما استثنائيا لا يُفَوَّت ولا يُعَوَّض!
يكفيه (مثلا) مشهد الناس، وقد اجتمع حاضرهم وباديهم، وغنيهم وفقيرهم، في صعيد واحد؛ ما إن ينهوا صلاتهم حتى ينهض الجميع للمصافحة والتحية. وفي العيد تحية خاصة يدخرها أهل قريته للعائدين من سفر بعيد وفي المناسبات المهمة. أليس العيد (بشكل أو بآخر) محطة يرتاح فيها المسافرون في دروب الحياة"!

***
- (تموت بعض الأعياد في المدن)..
لقد كان ذلك شيئا يشبه الرثاء لتلك التفاصيل الجميلة التي اعتاد عليها منذ نعومة معنى العيد لديه، ولكنه اكتشف مؤخرا، بشكل غريب وموجع؛ أن العيد لا يموت في المدن الكبيرة وحدها فحسب، بل يمكن أن يحدث هذا حتى في القرى الصغيرة العامرة بالألفة والمحبة والروابط الأسرية..

لقد مات العيد بين يديه، في القرية التي كانت مسقط رأس أبيه، ومنشأه، ومسكنه، ومقبره.. لقد مات العيد إذ وجده فارغا من أَحَبِّ معانيه إلى قلبه.. مات لمّا خَلَت تفاصيله من وجه أبيه الحبيب!

هذا هو امتحان الفرح الأول منذ وفاة أبيه قبل شهر ونصف تقريبا. لقد كان امتحانا صعبا، وكان يُؤْثِرُ لو تأخر..!

تذكر حديث أحد أساتذته المغتربين، حين حكى لهم عن أول عيد يقضيه في غربته، ولم يزل بَعْدُ جديدا على المكان، قال: "بكيت ذلك اليوم كما لم أبكِ من قبل"!!
كان وحيدا، غريب الوجه واليد واللسان، في بلد لم يعتد عليها ولم تعتد عليه. وقد تذكر بيتهم الذي يضج بالحركة في يوم كهذا، حيث يحج أهلهم وجيرانهم إليه، فيطوفون بمعاني العيد، ويتلون سوره ويتلمسون حجره، ويتناشدون أشعاره، ويتذكرون حكاياته الجميلة كل عام..
لقد تألم المسكين كثيرا إذا يحدث هذا -هذه المرة- بينما هو وحيد في مكان قصيٍّ عن كائنات العيد التي اعتاد عليها واعتادت عليه، فمن ثَمَّ أوجعته الذكريات وبكى. قال: "لو لم أبك لكان ذلك عجيبا في شأني.. كنت سأشعر بأنني غير طبيعي على الإطلاق"!!

هكذا إذن بكى قلب صاحبنا كما بكى قلب أستاذه من قبل. لم يشعر بمعنى هذا العيد لسببين: أحدهما يشترك فيه الناس كلهم، والآخر خاص به وأسرته.. فأما الأول -بسبب ما أحدثته جائحة كورونا- فقد صرف الناس عن التزاور والتقارب، وأما الثاني فقد صرفه عن لبس الجديد وإظهار الفرح بهذا اليوم!
لقد مات العيد، فأصبح يوما عاديا مملا، فيا لَلأسى!!..

إن العيد هو أن نرى وجوه من نحبهم ناعمةً راضية. هو أن يكونوا إلى جوارنا في لحظة شعائرية نادرة يتشارك السعادةَ بها الإنسانُ والكونُ والحياة. هو أن نشعر بوجودهم، ونتقوى بحضورهم؛ فإن في لحظات الفرح من العصف ما يحتاج الإنسان معه إلى شركاء موثوقين يثبتونه بقول ثابت، ويسيرون به في صراط آمن مستقيم!