الأحد، 8 أبريل 2018

متعة الأشياء الصغيرة..


مشيت بعد الفجر حوالي ثلاثة كيلومترات. حين خرجت من المسجد؛ كان صوت صرصور الليل (مسيهرو الليل/ في الدارج عندنا) لم يزل يُسمع في بعض الأنحاء، وكانت بعض زوايا الطريق مظلمة، والمصابيح الخارجية لبعض البيوت لم تزل تجاهد في تبديد ظلمة الدروب الصغيرة من حولها..
كان الهواء منعشا عليلا، وكان شيء ما في الكون يدعوني للمشي في هذا الجو الساحر البديع..

عَرَّجْتُ على البيت، وتناولت جهاز (الكندل). أقرأ الآن فيه كتابا لطيفا، عنوانه (مميز بالأصفر)، وصفه مؤلفاه بأنه مقرر مختصر للعيش بحكمة والاختيار بذكاء.
يحوي الكتاب مجموعة من الحكم والنصائح المفيدة. استمتعت بها وأنا أنفصل شيئا فشيئا عن السكك الضيقة بين البيوت إلى السيح الواسع الجميل. كنت أراوح بين القراءة والنظر والتأمل فيما حولي من مراتع الطفولة.

مررت على الملعب الذي لعبت فيه صغيرا. تذكرت الشاب الذي التحق لتوه بالجيش. كانت تعتريه نفضة خفيفة، وكان يبدو لي بلا لياقة كافية.. تذكرته إذ أنفق حوالي الساعة ركضا من الملعب وإليه. عرفت حينها أن الأشياء ليست كما تبدو أول مرة، وأن على الإنسان المحاولة بما يستطيع ليصل إلى ما يريد. وفي الكتاب كان إدوارد إي. هال يقول: "مجرد أنني لا أستطيع فعل كل شيء لن يجعلني أحجم عن فعل الشيء الذي أستطيع فعله".

واصلت المشي، حتى وصلت (وادي العْلَيْم). لا يسيل هذا الوادي -فيما أتذكر- إلا عند الأمطار الغزيرة على القرية. تسيل وديان على أطرافٍ أخرى من قريتنا بسبب اتصالها بوديان كبيرة، أما هذا الوادي فيبدو أنه وحيد في هذا المكان. جاء في الكتاب مقولة للأم تريزا: "العلاج الوحيد للوحدة والإحباط واليأس هو الحب". تبدو المحبة ماثلة في البيوت التي بدأت في الانتشار على ضفاف (وادي العْلَيم) الآن. غبطت سكانها وغبطت الوادي على أسرته الجديدة.

واصلت سيري وبدت لي مزرعة جدي الذي توفي قبل حوالي 20 سنة. كان يعمل في مزرعته بجد، ولم نزل نذوق الرطب والتمر اللذيذ الذي تأتي به النخيل التي غرسها. كان جدي لطيف المعشر، وكان يتحلى بروحِ دعابة يدخرها لأوقات خاصة فحسب. مضى جدي -رحمه الله- ولم تزل نخيله وسيرته اللطيفة تذكرنا به. قال لي الكتاب -بُعَيْد هذه الخواطر بقليل-: "احسب ثروتك بما سيتبقى لديك إذا فقدت كل مالك".

حين وصلت البيت؛ تناولت هاتفي الذي وضعته في الشاحن قبل المشي. في إحدى مجموعات الواتساب رأيت مقطعا مصورا لنشيد أنشده أحد الأصدقاء. أرسلته له ولمهندس الصوت الذي سجله. في النشيد ذكريات تجمعنا معا، وفي الكتاب كان جيني دي فري يقول: "حتى أبسط صنائع الإحسان تقول: 'أنا مهتم'، أو تقول: 'أنت مهم'، أو تقول: 'لقد فكرت فيك'."

حين كنت أرجع أدراجي إلى البيت؛ كنت أشعر باستمتاع كبير بهذه الفرصة التي أنعم بها الله علي، حيث جعلتني أتنسم هذا الهواء العليل، وأرى هذه المساحات الواسعة البكر، وأجتر ذكريات الطفولة الجميلة، وأحمد الله على نعمة اسمها (قريةٌ وُلِدَت في ناحيةٍ من سيح واسع). كان الكتاب يقول لي في هذه اللحظة: "إن الحياة تحثنا على التوقف قليلا والتريث والاستمتاع بمتعها البسيطة... سعيد هو الإنسان الذي يستطيع الاستمتاع بالأشياء الصغيرة، والمباهج البسيطة، والأحداث اليومية العادية… إن الحياة تدعونا لذلك، فما الذي ننتظره؟!"



الأربعاء، 4 أبريل 2018

مارسيات | 2018 م


28 مارس 2018م
يهاجم المتطرفون في كل شأن من شؤون الحياة بعضهم بعضا..
ولو أنهم تأملوا قليلا؛ لوجدوا أن كلا منهم كان –بوجه من الوجوه- سببا للآخر، فكم أدى التطرف في اتجاه ما إلى ردة فعل عنيفة في الاتجاه المضاد!
ولو أنهم جنحوا للوسطية؛ لربما وجدوا أن اختلافهم إنما كان في القشور فحسب، وربما ساغ في موقعهم الجديد ما لم يكن سائغا لهم ألبتة في موقعهم القديم، حيث يرون له الآن وجوها لم يعرفوها من قبل، ومبررات -جديرة بالنظر- لم يكونوا يقيمون لها أي اعتبار!


26 مارس 2018م
تشبه الأحداث التي تجري من حولنا -في وجه من الوجوه- القصيدة الفذة، يتناولها النقاد بالتفسير والتأويل، فيقول فيها كل منهم قولا لا يُشبه قول الآخر..
على أن لكل قول ما يؤيده من داخل القصيدة وخارجها، ولكن اختلاف مواقعهم في النظر جعل كلا منهم يرى ما لا يرى غيره..
الأيام قصيدة ملهمة، ولكل منها فيها قول صحيح!


24 مارس 2018م
لا تصان منجزات الحضارة بالقوانين فحسب؛ بل يصونها –قبل هذا وبعده- إحساسٌ عالٍ بالمسؤولية. لا يمكن للقوانين أن تُجَرِّم كل قبيح، بل ولا تستطيع وضع تعريف عام دائم لكل مستقبح، فقد يجمل ما كان قبيحا في يوم ويقبح ما كان جميلا في يوم آخر..
أما الشعور بروح المسؤولية وتغليب المصلحة العامة؛ فإنهما –ما وُجدا- أخلق بأن يدفعا الإنسان باتجاه وضع كل شيء في موضعه، دون أن ينفي هذا (بالطبع) أهمية القوانين المنظِّمة وضرورتها!



19 مارس 2018م
يخطئ إنسان في آخر،
فتمر الأيام وبينهما من الضغينة ما بينهما،
ثم يفترقان وينسى كل منهما ما حدث،
ثم يلتقيان بعدما نسي كل منهما -أو يكاد- اسم صاحبه..
ومن عجائب القدر حينئذ؛
أن يستقبل الأول الثاني بوجه بشوش، وقلب محب، وإحسان بالغ؛
كأنما يكفر عما مضى دون أن يدري. هكذا تقضى بعض الديون!


18 مارس 2018م
أحيانا؛
تبدو (الفكرة) مجنونة لحظة خطورها..
ولكن أسئلة هنا وهناك، وأفكارا تفصيلية أخرى تفرعت منها؛ تعمل على تثبيتها في العقل شيئا فشيئا، حتى إذا تمكنت من تفكير الإنسان؛ احتشدت أحداث في الزمان ومعالم في المكان، تؤيدها على نحو عجيب.
تأمل؛
كيف أن (الفكرة) تقود الداخل والخارج معا!


16 مارس 2018م
بين الفلاح وأرضه؛
كما بين الأب وابنه.. قد تختلف الصورتان في قليل أو كثير، ولكن قاسما مشتركا بينهما لا يخفى على من يلاحظ سعادة الفلاح بما تمنحه إياه أرضه وإن كان شيئا يسيرا؛ تماما كما يفرح الأب بعطاء ابنه وبره دون نظر إلى مقداره!



14 مارس 2018م
كل ما أعرفه عن #ستيفن_هوكينج هو ما طالعته اليوم في مواقع التواصل الاجتماعي فحسب. لقد تأثرت للمفارقة البالغة بين (حاله الضعيف) و(أثره القوي). طالما أخفت المظاهر المتعثرة جواهر عبقرية، تفاعلت فيها الفكرة اللامعة والنية الدافعة والعمل المنظم المستمر، فكان لها الأثر الخالد!

***

في كل (حي) أو (جماد) ظاهر الفساد؛ شيء خفي من الصلاح، بقية من الفطرة النقية.. تبديه لحظات فارقة أحيانا، أو لحظات حرة من الرقباء أحيانا أخرى، أو لحظات الإلهام العالي..



13 مارس 2018م
ربما يجد الإنسان،
في إنسان آخر لم تكن تربطه به أي علاقة؛
نقطة ضائعة منه في دروب الأيام،
أو شبها بعيدا بشخص حبيب (في الشكل أو الصوت أو الحضور)،
أو طبعا كان يناضل أن يتطبع به فلم يوفق،
أو شيئا يجذبه إليه ولكنه يعجز عن تحديده وتفسيره؛
فلا يملك إلا أن يحبه، أو يتأثر به، أو يتخذه عنوانا دالا على مرحلة فاصلة في حياته!


7 مارس 2018م
الإغراء،
على أية حال؛
شيء من الحرب، وإن بدا لك أنه شيء من السِّلم!



5 مارس 2018م
بين عينيك أبواب كثيرة يمكن أن توصلك لهدفك، لكن الباب الذي يتعين عليك اختياره لتبلغ غايتك بأسرع مما يقضيه الآخرون هو الباب الذي ينفتح على درب قصير سالك آمن..
/••
فكر في الأبواب الذكيـــــة دائما !!



4 مارس 2018م
في الشارع المؤدي إلى معرض مسقط الدولي للكتاب زحمة، وفي المواقف زحمة، وفي الداخل زحمة..
هؤلاء الناس أتى بهم الكتاب من كل حدب وصوب، مختلفين في مشاربهم وظواهرهم وجواهرهم، قليلا أو كثيرا؛ ليجمعهم -هذا الكائن المؤثر- في مكان واحد، كما يجمع الوطن أشتاتا مختلفين من البشر في حيز واحد، أو كما يجمع الجد الكبير أحفادا بينهم من الاختلافات ما أمعن الزمن في توسيعه جيلا بعد جيل..

الكتاب وطن جامع، لا يفرق بين صغير وكبير، وعالم ومتعلم، وأنيق في هيئته وأشعث أغبر، ومتدين متشدد ومتغرب منسلخ. يجمع الأضداد فتبدو كأنها مترادفات، لا يستقيم معناه بدون اجتماعها معا..
وكما يحتفي بمحافله المثقفون (على اختلاف طبقاتهم ومجالاتهم وانتماءاتهم الفكرية)؛ يحتفي بها غيرهم ممن يحب أن يكون الكتاب زينة في بيته، أو من يجد في معارضه متنزها غير معتاد، أو من يجد في حضور فعالياته طريقة مبتكرة ومستهلكة -في آن واحد- لتزجية وقت فارغ..

والكتاب -قبل هذا وخلاله وبعده- أب ينتسب إليه كل محب للعلم والمعرفة، وكل طالب حظوة في الدنيا أو الآخرة أو كليهما، حتى ليمكن استبداله بالأدب في قول الشاعر:
"إن لم يكن نسب؛ يؤلفْ بيننا / (أدب) أقمناه مقام الوالد"!

الاثنين، 2 أبريل 2018

فلسفة الصغار


في مرحلة ما من عمره؛ عرف (أسامة) أن الله قادر على كل شيء، بما يعني أن كل الأماني والأحلام يمكن أن تتحقق من خلاله. وفي يوم ما استحضر هذا المعنى، وكان –فيما يبدو- يود استرضاء أمه بعد أن غضبت عليه أو على أحد من إخوته؛ فقال لها، وهو يحيط وجهها بيديه الصغيرتين، ويَعِدُها بهديةٍ فخمة: ماماه.. لما أكون (الله) سأشتري لك سيارة كبيرة، أو كما قال –عفا الله عنه-!

كان وقع الجملة مضحكا في تلك اللحظة، وكنت وأمه بين إعجاب –نُسِرُّه- بهذا الربط، واستغفار –نجهر به-  حتى يعلم أن هذا التركيب غير صحيح..
وكان وقع هذه الجملة –فيما بعد- مدعاةً للتأمل في كلام الصغار؛ كيف يمارسون طرفا من الفلسفة أو الربط العجيب بين المقدمات والنتائج!

هذه الأسئلة والأجوبة التي يفاجئ بها الصغير والديه، بحيث يبدو أكبر من عمره وأعمق تفكيرا مما هو متصور حول مستوى تفكيره؛ تجعل الواحد منا يحار أحيانا إن كان هذا الجواب علامةً على النبوغ المبكر أم علامة على جهله هو بما يملك الصغار من إمكانات تخفيها عنه اشتغالات اليوم وأحوال النفس هنا وهناك!

ما تزال ترن في أذني تعبيرات نطق بها أولادي في مراحل مختلفة من حياتهم. حدث هذا أمامي مرات، كما يحدث أمام كل أبوين مرات كثيرة، في مراحل مختلفة من أعمار أولادهم.

ومن ذلك؛ أن (الزهراء) كانت تقول للشيء يستعصي عليها جذبه: (تعال) كأنه يسمع ويعقل. يبدو التركيب مضحكا، لكن التأمل العميق يحيل (مثلا) إلى أن هذا هو جوهر (قانون الجذب) الذي يتحدث عنه المهتمون بتنمية الذات.

أما (المهند) فقد كان في يوم ما غاضبا مني؛ لأنني لم أشترِ له هدية أرادها وأصر عليها، فقال لي: أنت لا تحبني.. ومن الآن سيكون اسمي هو: المهند بن (خفي) بن علي.. لا مكان لك.. أنا وجدي فقط! .. هل كان الصغير يعبر من حيث لا يشعر –أو (ربما) يشعر- عن أن المحبة تثبتها أو تنفيها الأفعال فحسب، أم أنه كان يرمي إلى أن حضور اسم أبيه في اسمه دلالة على محبة أبيه له، وحيث إنها اختفت في هذا الموقف فليس من المبرر وجوده!!.. الله أعلم.

وزرنا أحد أعمامي يوما، فانطلق (المهند) مباشرة هو وبعض إخوته وأبناء عمه يلعبون في ساحة المنزل بألعاب هناك، أما نحن فكنا في المجلس نتناول القهوة، ثم لم تمض إلا دقائق معدودات حتى انفصل عن أترابه وجاء للجلوس معنا، فقال له العم: ما بالك تركتهم، ألا تحب اللعب؟ فأجاب –كما ينطق الحكماء-: بلى، ولكنها الحياة.. مَرَّةً لَعِب، ومرةً راحة!

ومثل هذا كثير عند كل الصغار عموما، ولكن عدم الانتباه إليه في حينه يحيله إلى زاوية مهملة في الذاكرة. إن تدوينه وحفظه، وتذكيرهم به فيما يأتي من الزمان، في لحظة مناسبة؛ له وقع لا ينسى. ربما تلهم الإنسانَ الكبير في مرحلة من مراحل حياته كلمةٌ أو جملة قالها وهو صغير، ولئن كان في صغره لا يفقه مراميها البعيدة فضلا عن معانيها القريبة؛ فإنه سيقف منها –وهو كبير- على معاني جليلة تبعثه خلقا آخر أفضل مما هو عليه، ولذلك قال الحكماء: "رب كلمة أيقظت همة فأحيت أمة" أو كما قالوا!