الأربعاء، 26 أغسطس 2020

مشارق | (8)

(71)

قدر الإنسان ألا يكون كاملا؛ ففيه من المحاسن كما فيه من المساوئ، "ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها"، وإنما يُحَسِّن سيرتَه ويُجَمِّلُ عِشْرتَه ويُعَظِّمُ أثرَه ويُخَلِّدُ ذِكْرَه؛ ما ينجح فيه -عند كل موقف ومجلس- من تغليب حَسَنِه على سَيِّئِه وسمينِه على غَثِّه ومعروفه على منكره، وما يحاوله في هذا السبيل -بطلبه العلم، واعتذاره عن الجهل-..

فلا تبتئس أن عرف الناس بعض خلالٍ سيئةٍ فيك. عليك منذ الآن أن تجتهد ليروا منك الحَسَن من الطباع، والسمين من الكلام، والمعروف من الفعال..

 

(72)

ربما يقول الإنسان بصمته أكثر مما يحاوله إذا تكلم. إن في الصمت فصاحة وبياناً يعجز عنها أحيانا لسان الفصيح المبين. لقد اختصر الصامتون كثيرا من الطرق الطويلة، وأتقنوا كيف يجمعون اختلاف ألسنة الناس في لغة واحدة يفهمها الجميع.. والصمت (ترف) يمارسه المرتاح، و(ضرورة) يجد فيها نفسه المعذب؛ وهو في حالتيه أدنى إلى أن يكون (بلسما) في زمان كثر فيه الكلام!

 

 (73)

ربما تُفهم بالاقتضاب ما لا تُفهمه بالإسهاب!

فقد تخون التفاصيل التي أحسنت فيها الظن، وينشأ عن (إقحامها) معنى لم تكن تقصد إليه، وقد ترتبط بتفاصيل في المكان أو الزمان فينشأ عن (هذا التزامن) معنى فجٌّ من حيث أردتَ المعنى الملائم للمقام، وقد تعصف بها الرياح فتتبعثر ويضطرب المكان وتشيع الفوضى..

لا تثق في التفاصيل دائما، ولا يغرنك مظهرها البريء!

 

(74)

الكلمات التي يكتبها أولادنا لنا بين حين وآخر؛ تكشف -بشكل أو بآخر، قليلا أو كثيرا- عن مدى تمكن القيم التي نحاول غرسها في نفوسهم، وعن فاعليتها فيهم، وعن أعمارهم الخفية التي تنمو من حيث لا نشعر.. إنها تكشف عن الكائن الذي ينمو إلى جوارك، فترى فيه شيئا منك ومن غيرك. بهذا المعنى –تقريبا- يتخلق معنى الزينة فيهم؛ فما من ريب أن الإنسان يتزين بما يحبه!

 

(75)

على كثرة ما يتقرب الأولياء البررة إلى ربهم؛ فإنهم لا يرون ما تقربوا به إلا قليلا، وأن الطريق إلى مرضاته -على استقامة منهجهم- لم يزل بعد طويلا.. رضي عنهم العباد بما قدموا من صالح القول والعمل، ولكن أمنيَّتهم لم تزل -منذ أول خطوة بذلوها في هذا السبيل- أن يرضى عنهم رب العباد؛ فلا غرو أن يقول واحدهم: "حياتي لا تستحق أن يُكتب عنها"!

 

(76)

تكبر إساءةُ من أساء إليك بقَدْر ما تُقَلِّبُها في نفسك. لقد كانت حصاةً أول الأمر، ثم أصبحت -على كثرة التقليب والنظر- صخرةً كبيرة!

تأمل:

كم صخرة تَغَصُّ بها حدائق ذكرياتنا: تُعْمي منافذ الضوء، وتسد جداول المياه، وتقطع الدروب؛ فيغبَرَّ منها المخْضَر، ويكاد الحي أن يموت، ولسنا نسلم بعدُ من أن نتعثر بها، فنرتطم بعنف في لحظاتٍ كانت خليقةً بالهدوء والسكينة..

لقد كان في الإمكان -بدلا من هذا كله- أن نجعل تلك الحصى بساطا ناعما من الرمل، أو حصباءَ باختلاف ألوانها يتجمَّل المكان!

 

(77)

تبزغ الفكرة العبقرية، أحيانا، من بين ركام الاختلافات في أمر ما. هنالك يسهم كُلٌّ من الآراء المختلفة - بوعي من المختلفين أو بدونه - بجزء من كيان هذه الفكرة. وليس بالضرورة أن يكون هذا الإسهام مباشرا وواضحا، بل قد يتأتى إليه العقل بما أوتيه من إمكانات المقارنة أو ملء الفراغات أو التحليل والتأويل أو تركيب الدلالات المختزنة لديه على ما يسمع ويرى. الاختلاف نعمة، فاشكروا الله عليها..

 

(78)

ثقة المرء بنفسه؛

تُرْخي عليه أستارا تحول بين أعين الناس وآذانهم، وبين أن يقعوا على ما قد يَعُدَّونَه معائب في هيئته أو كلامه!..

إن هذه الثقة تجذب المحيط من حوله إلى ما يقول أو يفعل، وتغدو تلك المعائب هامشيةً غير مكترث بها ولا ملتفت إليها، ولو كانت في غيره لكانت مركزًا للسمع أو البصر، استثقالا واستكراها!!

يشعر الواثق من نفسه أن الكون كله محتشد معه، فهو في شيعة من الأنصار، وإن بدا -في الظاهر- وحيداً غريبا مخالفا للمألوف أو المتوقع!

يا لهذا السحرالعجيب!

 

(79)

في مُنتَج اليد الصَّنَاع روح لا توجد في منتج الآلة مهما بلغت من الدقة والإتقان والجودة. ثمة تفاصيل تعجز عنها الآلات، وهي عند الإنسان من اللوازم التي لا تغيب. أرأيت إلى تكوينه النفسي الثابت والمتغير، روحه المتفردة التي لا تشبه نفسها في كل مرة، خبرته التي تتطور، حركة الناس من حوله؛ لكل هذه التفاصيل آثار تظهر قريبةً جَلِيَّة أو تترآى من بعيد، وهي في الحالين تعطي معنى حيويا لمنتجه المتفرد. المنتج الإنساني حي، حتى وإن أفرط في جماديته!

 

(80)

لا يتنفس الإنسان برئتيه فحسب؛ وإنما بمن يحبهم أيضا.

الأحباب متنفس رحب إذا ضاقت بنا الدنيا أو ضقنا بها، واستراحة جميلة على إثر فراغ يبعث على الملل أو شغل يورث الكلل، وهم العلم الذي لا يحتويه كتاب، والفن الذي يأخذ بالألباب. نعمة من نعم الله علينا، وآية بالغة على أن لنا من أنفسنا دواء وشفاء.

وإن شئت الحق؛ فإن الدنيا لا تضيق بمحب ومحبوب، فاحرص على أن تكون أحد هذين تَنَلْ سَعَة الدنيا، وأصلح نياتك في الحالين تُصِبْ نعيم الآخرة..

 

الأربعاء، 12 أغسطس 2020

يوميات عابرة | 51 - 60

 

(51)

(اقتل الليت)..

أما (الليت) فهو المصباح، مستعملة في الدارجة أخذا من التسمية الإنجليزية، وأما الأمر بالقتل في هذا السياق؛ فإن المراد به الإطفاء!!

حدثني بهذا بعض جيراني، من أهل الظاهرة، وقال: إن أباه إذا أراد منهم إطفاء المصابيح فإنه يستخدم هذا التعبير..

قلت له: لا شك أن أباك شخص ظريف، يحب المزاح؟

فنفى أن يكون في الاستخدام نوع من الدعابة، وإنما فَسَّر هذا بأن حياة المصباح إنما هي ضوءه الذي يُحْيي به المكان المظلم، فإذا انطفأ فقد مات!

 

 

(52)

أوَّلُ لقاء لي بـ الشيخ حمود الصوافي كان في المساء. حضرنا معه العشاء في صحن بيته، وكان من الحاضرين في ذلك المجلس الأستاذ عامر الصبحي، الذي سندرس عليه لاحقا ملحة الإعراب وألفية ابن مالك في النحو.

 

قُرِّب طبق الرُّطَب، وكان من عادة الشيخ أن يناول ضيوفه مما فيه، بين الفينة والأخرى.

 

حين امتدت يد الشيخ إليّ بالرُّطَبَة، مددت يدي لأخذها. فوجئت بأن الشيخ لا يُفْلِتُها من يده. ولجهلي وسوء تقديري؛ فقد خطر ببالي -لكون الشيخ أعمى- أنني لست المقصود بها، أو أن الشيخ لم ينتبه لتناولي إياها. حاولت فيها مرة أخرى، ولكن دون جدوى.

 

رفعت وجها محمَّراً من الخجل إلى الحاضرين، بينما لم تزل يد الشيخ ممدودة تجاهي، دون أن يبدو على وجهه أي انفعال!!

فوجئت بأن الأستاذ عامر -الذي لم أكن أعرفه بعد- يشير إليَّ مبتسما أن أجذبها بقوة.

حين فعلت؛ ابتسم الشيخ، وربما ضحك، أو كاد!

 

تلك كانت أولى دروس الشيخ -حفظه الله-، في أن من يبتغي شيئا لا بد من أن يدمن محاولة نيله، وألا ييأس من إخفاق المرة الأولى فقد يصل إلى مبتغاه في الثانية أو الثالثة أو غيرهما..

وكذلك فقد قال محمد بن بشير الخارجي:

أخْلِقْ بذي الصبرِ أنْ يحظَى بحاجته

ومُدْمِنِ القَرْعِ للأبواب أن يَلِجَا

 


(53)

سألته: كيف تعلمت المحاسبة؟

هو رجل مخضرم من جيل الخمسينيات، فيما أحسب، وربما تكون الفرصة قد واتته، في بعض مراحل حياته، لأخذ نصيب من الدراسة النظامية الحديثة، فضلا عما قد يكون تحصِّل عليه في الكُتَّاب أوائل سنيِّ التعلم.

 

سمعته مرة، وأنا بعد في حداثة السن، يتحدث الإنجليزية، فلما سألت عن ذلك قيل لي إن هذا من أثر اختلاطه بموظفي شركات النفط من المتكلمين بالإنجليزية..

 

كان يحكي لي أن حياته العملية أورثته خبرات متعددة، في صناعة الخرسانة، والعلاقات العامة، والمحاسبة، وغيرها من الشؤون!

 

فأجابني، ردا على سؤالي الآنف: تعلمتها من أحد زملائي!

وحين قلت: ولكن المحاسبة تحتاج -فيما أظن- إلى دراسة نظامية؛ قال بلهجة بسيطة صادقة: بو يبغى العمل بيعرف له!

والمعنى: أن الذي يطلب العمل، وهو صادق النية دائب السعي؛ ستنفتح له من أبواب الملكات والمواهب ما يتمكن به من عمله فيصير به خبيرا بصيرا!

 


(54)

من عجيب ما سمعته من أحد الإخوة العرب -ومَرَّ عليَّ كثيرا فيما أقرأ وأسمع- أن التسمية بأسماء الحيوانات والحشرات، صغيرِها وكبيرِها، المعظَّمِ منها والمحتقر؛ شائعة لديهم في أسماء الأسر والعوائل الكبيرة، بصريح اسم الحيوان أو بشيء من صفاته.

 

فمن ذلك مثلا: الأسد، والفأر، والقط، والدجاج، والصرصور، والحمار، والجحش، والنملة، والديك، والبغل، والجرجس، وغيرها..

سألته: كيف ينظرون إلى تسميات عوائلهم هذه؟ أهم متصالحون معها؟

فأجاب ضاحكا: نعم..

بل، وكأنه -بما أكده لاحقا من أن هذا ينسجم مع بعض عادات العرب في تسمية أولادهم، ببعض أسماء الحيوانات كالكلب والثور وغيرها، أو بقبيح التسميات درءاً للحسد- كأنه بهذا أراد أن يضيف إلى جوابه (بل ويفتخرون بها)!

 

وإلى ما تقدم، من أسباب التسمي بأسماء الحيوانات؛ فقد سمعت في دروس الشيخ الدكتور/ سعيد الكملي، وهو يشرح أبيات لامية العرب للشنفرى، أن مما حمل بعض الصعاليك ونحوهم على مؤالفة بعض الوحوش من الحيوانات؛ هو ما يجدونه فيها من خصال طيبة افتقدوها في البشر من حولهم. وساق في بيان هذا المعنى بيتين للشاعر العراقي معروف الرصافي، يقول فيهما:

دع الأناسيَّ وانسبني لغيرهم

إن شئتَ للشاءِ أو إن شئت للبقر

فإن في البشر الراقي بخلقته

من قد أَنِفْتُ به أني من البشر

 

وإذن فربما رغَّبَتْهم هذه الخصال أيضا في التسمي بأسمائها، والله أعلم.

 

 

(55)

من درر أ.د. عبدالله الطيب في كتابه (نظرات في المجتمع الإسلامي)، ما ذكره من أن لأبي الطيب المتنبي وأبي تمام، وغيرهم من أدباء العربية أثرا في أدب شكسبير. يقول: "وَصْفُ شكسبير على لسان انوباريوس لكليوبطرة فيه شَبَهٌ شديد بقول أبي تمام في عمورية:

من عهد إسكندرٍ أو قبل ذلك قد/ شابت نواصي الليالي وهي لم تَشِبِ

بِكْرٌ فما افترعتْها كف حادثة/ و لا ترقَّت إليها هِمَّةُ النُّوَبِ

وقول ماكبث: (إن الطموح قد يجاوز حده فيصير الوثب به إلى سقوط صارع) قريب من قول أبي تمام:

أم ذاك من همم جاشت فكم ضعةٍ/  حدا إليها غُلوُّ القوم في الهمم

ونوشك أن نحس روحا من قول حبيب (هممٍ جاشت) في قول وليم شكسبير "But ambition valuating ambition"، وتحرُّكُ غابة دنسنين في قصة ماكبيث مأخوذ من خبر أسحار زرقاء اليمامة بلا ريب"!

 

 

(56)

من منافع ما يطرحه متعلمو العربية الناطقون بغيرها من أسئلة، أنها تحفز على النظر والتأمل في دقائق لم يكن المعلم ابن اللغة منتبها لها من قبل، يتساءل عنها هؤلاء المتعلمون وقد أربكهم قليلا أو كثيرا التداخل اللغوي بين لغتهم الأم واللغة الهدف، فيفتحون آفاقا جديدة من النظر لمعلمهم، وتلك مزية فريدة في هذا المجال من التعليم، ذلك أن كل متعلم للغة إنما ينظر إليها بعيون لغته الأم، فيبعث بأسئلته انطلاقا من هذا، ومن ثَم يتاح للمعلم، وهو يبحث ويقارن، أن يتماس مع لغات وثقافات كثيرة..

 

ومن ذلك مثلا أنهم يتساءلون عن أداة التنكير في العربية؛ هل لها وجود؟ مستحضرين في ثنايا السؤال ما هو موجود في بعض لغاتهم من أدوات خاصة بتعريف الأسماء وتنكيرها..

 

سألَنا د.خير الدين عبدالهادي السؤال نفسه، فما زدنا على أن قلنا إن النحاة -في حدود ما نعلم ونتذكر من مقولاتهم- لم يتكلموا إلا عن أداة تعريف الاسم النكرة، ويبدو أنهم -لأمر ما- سكتوا عن أداة تسمى (أداة التنكير)!

 

وكان من ضمن ما افترضتُه تعليلا لذلك؛ هو أنهم قرروا أن الأصل في (الاسم) أن يكون نكرة، فهو غير محتاج لأداة تطرأ عليه.

 

ولكن أستاذنا الدكتور، يستنتج -وهو يقارن بين اللغة العربية وكل من الألمانية والإنجليزية، اللتين تمتلكان أداتين مختلفتين تطرآن على الاسم لتعريفه أو تنكيره- أن في العربية أيضا أداةً للتنكير، وهي (التنوين)!

 

كانت هذه إضافة معرفية جديدة، وما أكثر مثل هذه اللطائف في محاضرات أستاذنا الدكتور، جزاه الله عنا كل خير..

 

ومن جوجلة سريعة للموضوع، وجدت أن ثمة من يرى الرأي نفسه الذي خلص إليه د.خير، بله أن لهذا إشارات مبثوثة في مقولات النحاة من قديم.

 

فهذا شخص يسمي نفسه الأحمدي، كتب في منتدى شبكة الفصيح لعلوم اللغة العربية، بتاريخ ٢٨ يوليو ٢٠٠٦م: "عندما كنت أدرس اللغة الفرنسية قبل أعوام؛ دخلت أنا ومعلمتنا الفرنسية في نقاش، مفاده أنها ترى أن اللغة الفرنسية حوت ما لم تحو العربية، لأن فيها أداة تنكير ولا يوجد في اللغة العربية أداة تنكير، فقلت لها: التنوين هو أداة التنكير عندنا، فثار عليَّ الطلاب العرب أنفسهم. ما زلت إلى يومنا هذا أعتبر التنوين أداة التنكير في اللغة العربية".

 

وكذلك؛ فقد جعل النحاة أحد أقسام التنوين: تنوين التنكير، وقالوا في تعريفه إنه (ما يلحق بعض الأسماء المعرفة لتكون نكرات). فإذا قيل: (مررتُ بسيبويهِ وسيبويهٍ آخر)؛ كان المقصود بالأول الرجلَ اللغويَّ المعروف، والثاني شخصاً ذا معرفة واسعة بالنحو أشبه الأول فسمي به. وإذا "قلت لشخص يتكلم: (صهْ)، فإنك بذلك تعني أن يسكت عن كلام معين مقصود، وأما إذا قلت له: (صهٍ)، فإنك بذلك تأمره بأن يسكت عن أي حديث يتحدث به لا عن حديث مقصود بعينه".

 

 

(57)

- (الله كريم)..

قالها عامل محطة الوقود، وهو ينظر إليَّ شَزَراً (أو هكذا بدا لي) بعد أن مد إليَّ يده بجهاز الدفع الإلكتروني، لإدخال الرقم السري، فامتنعت، معللا ذلك بـ فيروس كورونا!

 

نظر إليَّ بغيظ وأنا أملي عليه الرقم، ثم أعاد جملته تلك مرة أخرى، ولسان حاله يقول:

إذا كان هذا حالكم أنتم أيها (المتدينون)، فما أبقيتم لغيركم؟!

- الله الكريم هو الذي يقول: (ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة). إنه يأمرنا بالتوكل عليه، والأخذ بالأسباب..

صمت لبرهة، كأنه لا يدري ما يقول، ثم لم يجد غير عبارته الأولى ليعبر بها عن فكرته أو حالته:

- (الله كريم)!!

 

لقد ذكرني هذا الموقف، بموقف آخر كنت منه على النقيض تقريبا، حدث أيام انتشار فيروس (H1N1)..

فبينما كان أحد زملائنا متخذا أقصى الاحتياطات حَذَرَ الفيروس، في المكتب وفي البيت؛ كنت -لأمر ما- غير مكترث كثيرا بما أسمعه وأقرأه من الاحتياطات الواجب اتخاذها بإزائه..

 

كان هذا قبيل العيد، وكان من عادتنا فيه أن يُحَيِّي بعضنا البعض، في مصلى العيد، ليس باليدين فحسب، وإنما بالأنوف أيضا!

انقضت الإجازة ورجعنا لأعمالنا، فإذا زميلنا هذا قد أصيب بشيء مما كان يحاذره -على رغم ما اتخذ من احتياطات-، وإذا أنا -الذي لم أحتط بشيء مما اتخذ- سليم معافى، ولله الحمد!

 

والخلاصة من هذين الموقفين؛ أنه في غمرة التحذيرات من هذا الفيروس والتحليلات التي تتناول أصله وفصله، وفي جدلية ما ينبغي علينا تجاهه -انطلاقا من مدى فهم كل واحد منا لمقتضى الآيتين الكريمتين: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" و"قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"-؛ في خِضَمِّ هذا كله؛ أُحِبُّ لي ولكم الحذر العاقل الحكيم، حيث لا تهويل ولا تهوين، وإنما هو اختيار وسط يصلح لأمثال هذه الحالة، المتشابهة والمحكمة، في وقت واحد!

 

اختيارٌ يقينا وأهلينا ومجتمعنا المرضَيْن: مرض الفيروس، ومرض النفوس؛ ويحملنا -في الوقت ذاته- على تفهم ما يقع علينا من مسؤولية دينية ووطنية وإنسانية.

 

وعودةً مرة أخرى إلى عامل المحطة المذكور أول هذه السطور؛ فقد لقيته مرة أخرى بعد نحو أسبوع من لقائي الأول به، وقد وجدته يغطي يديه بقفازين، فسألته عنهما، فقال: إنه متطلب السلامة.. ثم استطرد، وكأنه خشي أن أفهم عنه غير ما قاله المرة الفائتة: إنه ليس خوفا من (كورونا).. إنني أخاف الله وحده. فابتسمت وأجبته أن كل شيء بيد الله، وأن هذا ما أعنيه منذ البداية، وهذا هو مقتضى التوكل. فانصرف راضيا على غير ما انصرف عليه من قبل..

 

إن العافية أَحَبُّ إلى كل امرئ عاقل، وإن الوقاية خير من العلاج، وإننا بهذا كله نحفظ على وطننا مقدرات النظام الصحي فيه؛ فلنلتزم بتعليمات الجهات المختصة، وليكن لنا من الحكمة والبصيرة في النظر إلى مآلات الأمور ما نساعد به أنفسنا ومجتمعنا..

 


(58)

مما جاء في برنامج (اللغة العالية) للأستاذ عارف حجاوي أن محمد عبدالوهاب، المغني والموسيقار المصري؛ غنى قصيدة (مهيار الديلمي)، وكانت في أصلها تبدأ بهذا البيت:

أُعْجِبَتْ بي بين نادي قومها / أم سعد فمضت تسأل بي

فبدل (أم سعد) المذكورة إلى (ذات حسن)، وحين لامه بعض الغيارى على العربية والشعر القديم على ذلك؛ أجاب: كيف أقول (أم سعد) وهي زوجة أخي؟!

 


(59)

جئت ذات مرة إلى باكستاني في دكانه. كان يعمل في مطحنة في سوق فنجا، وقد تعودت أن أشتري منه القهوة، وكان الوقت بعد صلاة الظهر أو الجمعة؛ فإذا به على طبق غداء، هو وعدد من زملائه..

تراجعت قليلا، وهممت بالانصراف، معتذرا عن المقاطعة، فأجابني بأنه أنهى غداءه، وتهيأ للقيام. قلت له، للتأكد من أنه انتهى فعلا: خلاص؟..

ابتسم بمكر، وأجاب: خلاص، ولا خنيزي؟!.

ضحكت، فقد أدرك الباكستاني الجناس بين كلمتي (خلاص) بمعنى انتهى، والـ(خلاص) النخلة مثلما هو (الخنيزي)، وهو تعبير شائع -كما تعلمون- في مواقف التظارف والمداعبة!

 

(60)

("يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير"...

ليس عند أمة نص من الحكمة أو كتاب مقدس يبلغ هذا المبلغ من البركة والوضوح في رفض كل نوع من العنصرية؛ عرقية كانت أو لونية. ليس في عَهْدَيْ أهل الكتاب القديم والجديد نص صريح في رفض العنصرية كهذا، ولا في كتب الحكماء من الهند ويونان إلى فلاسفة العصور الحديثة، بما فيهم روسو وكانط وماركس وتومس باين صاحب حقوق الإنسان؛ نص يرقى إلى هذا المرقى. أعلى ما بلغه ماركس في صحيفة مذهبه الذي نادى به، أن قال: يا عمال الأرض اتحدوا، لن تفقد غير القيود والأغلال. ولكن لم يذكر شيئا يؤلف قلب العامل الأبيض إلى العامل الأسود، بأنه لا فصل له عليه قبل القيد وبعده. سكت عن هذا الأمر في مجتمع لم يكن يشك في فضل الرجل الأبيض العرقي، والسكوت رضا، والساكت عن الحق شيطان أخرس).

نظرات في المجتمع الإسلامي/ د.عبدالله الطيب.