الثلاثاء، 10 يوليو 2018

يونيويات | 2018م




24 يونيو
بعض اللحظات العاقلة تبدأ من لحظات الجنون.
هنالك تنقدح شرارتها، وتبدأ مسيرتها الخضراء، حتى تستقيم كأنها لم تكن بنت لحظة مجنونة!


‏24 يونيو
"واستَحْيا واسْتَحَى، حذفوا الياء الأَخيرة كراهية التقاء الياءَينِ، والأَخيرتان تَتَعَدَّيانِ بحرف وبغير حرف، يقولون: استَحْيا منك واستَحْياكَ، واسْتَحَى منك واستحاك".
**
#لسان_العرب


الثلاثاء، 3 يوليو 2018

حَسَنِيَّاتٌ متشاعرة | (2) | وحين مدَّت يدي بالحب ساقيةً..


كان أخونا أبو يعرب يسكن قريبا من البيت الذي كنت أبنيه في السيح الأحمر، وقد كان مبادرا إلى الخير، يساهم بأفكاره النيرة –إلى جانب بعض الجيران- في ترتيب الفعاليات الثقافية، وكان –بارك الله فيه- حلو المعشر لطيف السمت، طيب الذكر (عموما) في ربوع الحي، يَبَشُّ حين اللقاء ويكرم أضيافه غاية الإكرام..

لطالما حدثتني النفس أحاديث السرور بهذا الجار الطيب اللطيف الودود، لكنه فاجأنا حين اقترب موعد انتقالنا إلى بيتنا الجديد بنيته في الانتقال إلى مسقط –لبعض الشؤون والظروف-، فخلَّف ذلك الخبر في النفس من الأسفِ الشيءَ الكثير..

ولكن ما الحيلة؟
تقلب الظروف الإنسان من مكان إلى مكان ومن حال إلى حال، ولا يدري أي أماكنه وظروفه أحسن مستقرا وأطيب مقاما..
ومهما يكن من أمر؛ فإن أخانا الحبيب أبا يعرب ما زال يحن إلى مكانه الأول، ويأتي إليه بين حين وآخر، وعسى أن نشهد عما قريب عودته مقيما لابثا فيه كما هو وعده حين انتقل..

هذا، وقد تكشف لي فيه منذ أيام خلت عن شاعر رقيق لطيف، حين أكرمني مرةً بزيارته، وأسمعني شيئا من جميل أشعاره، فزاد هذا من أسفي على جيرة شاعرية كنت سأحظى بها، ولكن العزاء في أنه يبعث إلينا بشيء من كتاباته بين حين وآخر في مجموعة الحي على (الواتساب)، ولندفعنه إلى التكفير عن انتقاله بالأبيات العبقريات والقصائد العصماوات..

في مجموعة (واتساب) الحي؛ أرسل أبو يعرب في صباح يوم بديع مخمسا بيت امرئ القيس (أيا جارتا إنا غريبان ها هنا/ وكل غريب للغريب نسيبُ)، يقول:

أعيشُ بدارٍ شأنُـها ليس شأنَــنا
ففي (مسقطٍ).. لا وُدَّ ألقى ولا هَنا
ونفسي أُسَلِّيـها.. إذا الطيرُ دندنا
أيا جارتا إنا غريبانِ ها هنا
وكل غريب للغريب نسيبُ

فتذكرت بيتا أظنه لأبي مسلم البهلاني، زارنا بعض أصحابنا يوما، ولم يجدنا في البيت، فتركه لنا على ورقة ملاحظة على الباب: (جئناكم فوجدنا الدار خاليةً/ لا أوحش الله ربعا أنتم فيهِ)..

وجدت في البيت ما يشبه الرد على ما قاله، فقلت، والشعر يحييه الشعر:

أبقيتَ في (السيْـحِ) يا ذا الوُدِّ باقيةً
قطوفُــــها لم تَزَلْ بالخيرِ دانيةً
وحين مَدَّتْ يدي بالحُبِّ ساقيـــةً
جئناكم فوجدنا الدار خاليـةً
لا أوحش الله ربعا أنتم فيهِ


الأحد، 1 يوليو 2018

بِر | (2)


**
تدوينات رمضان 1439 هـ
***
بالتي هي أحسن
"إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم"..
حين فكر فيما يمكن أن يقوله؛ تذكر هذه الآية، وأيقن أن القرآن يكفيه.
ساق لمن جاء يشك في الدين ويحاجه فيه غير آية من آيات الكتاب العزيز، غَضَّةً كما أنزلت، دون تفسير ولا تأويل. فوجئ خصمه بما يقول، وأصاخ السمع، وربما خالط الإيمان قلبه..
لم يكن صاحبنا مستعدا بأدلة عقلية ولا نقلية، وربما لم يقرأ كثيرا في طرائق الجدل والحجاج، وربما لم يطلع على قصص الدعاة الذين واجهوا الملحدين والمشككين في الإسلام بحجج ذكية وبراهين عبقرية. وحين تذكر هذه الآية الكريمة أيقن أن في القرآن ضالته. وربما آمن به في لحظته تلك كما لم يؤمن من قبل.
كانت تلك –على أية حال- لحظة فذة من لحظات تجلي الإيمان وتحقق اليقين!

#بر | (31)


إني أحبك
حدثنا اليوم، بعد صلاة الجمعة واعظ نبيه.
جاءنا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم حين أخذ بيد معاذ بن جبل فقال له: "يا معاذ، والله إني لأحبك" فقال له معاذ: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وأنا أحبك". قال: "أوصيك يا معاذ، لا تَدَعَنَّ دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"..
قال لنا: (هذا الحديث المسلسل بالمحبة، نقله معاذ للصنابحي، الذي نقله للحبلي، الذي نقله لعقبة بن مسلم، وهكذا.. كل منهم يعلن لصاحبه عن محبته ثم يبثه هذه الوصية.. وأنا أسوق إليكم اليوم هذا الحديث لأنني أحبكم، فلا تدعُنَّ دبر كل صلاة أن تقولوا كما سمعتم)..
لم يغفل الواعظ النبيه حين ساق إلينا هذا الحديث الريان بالمحبة والسكينة، أن يثبت فيه شيئا من عواطفه الخيرة تجاه من يعظهم.. وتلك لعمري عواطف يبحث عنها كثير من الموعوظين في كلام كثير من الواعظين!
قال الشيخ محمد الغزالي: "إن التدين يوم يفقد طيبة القلب ودماثة الأخلاق ومحبة الخلائق يكون لعنة على البلاد والعباد"!

#بر | 32


شيخ العلم
كان جدي -رحمه الله- يحب العلم وأهله، وينزل العلماء والمتعلمين من نفسه منزلة كريمة.
وكان، وهو الشيخ الكبير المتعمم بعمامته البيضاء، ذو الحضور المحترم عند أهل القرية وما حولها ومرجعهم في مسائل الفقه، المعروف باسمه عند كثير من أقطاب العلم من مجايليه -باعتباره أحد تلاميذ الإمام الخليلي-؛ كان لا يجد في نفسه غضاضة من أن ينحني بالتحية للشباب من مشائخ العلم والمتعلمين من الفتيان، وأن يخدمهم؛ تقديرا لما وسعوه من العلم والمعرفة.
حضر مرة محاضرة في جامع نزوى لشاب مستقيم المظهر حسن البيان، ويبدو أنه أعجب بها، فما كان منه حين حيّاه إلا أن انحنى له. فعل ذلك؛ والشاب -في عُرْف المجتمع- وضيع المنزلة، ولكن جدي كان أعلى بصرا وبصيرة بما ينبغي للعلم وأهله.
وكان -رحمه الله- لا يأنف من أن يذهب بنفسه إلى صحن داره، فيجلب القهوة والفواكه ضيافةً لحفيد من أحفاده كان ينفق بعض إجازاته الصيفية في حضرة الشيخ حمود الصوافي. كان في وسع جدي أن يأمر حفيده الصغير بإحضار القهوة من الداخل، كما يفعل مع أحفاد آخرين أكبر منه، بل وكما يفعل مع أبنائه الكبار والصغار منهم. لكن جدي كان يُكبر حبه للتعلم، فكان يقوم له حين يأتي لزيارته، ويتلطف له في القول، بما يكاد يحرج الحفيد الصغير أحيانا.
كان الرجل الصالح وفيا للمعنى العظيم مهما كانت أحوال شخوصه الظاهرة..

#بر | 33


موسيقى
عائدا عند أذان الفجر، وعلى مقربة من بيته؛ فوجئ بالرجال تلفظهم البيوت، واحدا تلو الآخر، متجهين من كل زوايا الحي إلى المسجد.
صوت باب يفتح هنا، وصوت باب يغلق هناك، ثم إيقاع الأرجل وهي تمشي بهدوء وسكينة. موسيقى من نوع خاص، لا تشبه الموسيقى الأسبانية التي قطع (8) كيلومترات مشيا على قدميه حتى يمتع أذنيه بسماعها؛ وحفلة طاهرة، لا تشبه تلك الصاخبة التي أنفق فيها ليلته كاملة!
وتفكر: كيف لم ينتبه -وهو يجر خطاه كل هذه المسافة، في لياليَ مختلفة متباعدة- لهذه الموسيقى التي تتكرر كل ليلة قريبا منه، ظانّا أن ليس في الكون من موسيقى تبعث على الأمن والطمأنينة سوى تلك الغربية البعيدة التي كان مولعا بها..
وتساءل، وهو يرى فريق المصلين منبعثا إلى المسجد، ويترآى له أخلاؤه فريقا متجها إلى المرقد: "أي الفريقين أحق بالأمن"؟.. فكانت تلك لحظة فاصلة في حياتها كلها!

#بر | 34


إضاءة
لم يكن الدرب الذي كان يسلكه –طفلا، ثم فتى يافعا- إلى المسجد مضاءً في الليالي المظلمة. كلما ذهب لصلاة العشاء أو الفجر؛ كان يخوض ظلمات بعضها فوق بعض: الظلمات المحيطة بالمكان، وظلمات حكايات السحرة والجن التي تكاد تطير بفؤاده..
كان يتمنى، وهو يصارع ظلمات هذا الدرب -الذي يمتد تارة وينحني تارة أخرى تحت غطاء من سعف النخيل المنتشرة في أنحاء المكان-؛ كان يتمنى أن لو كان مضاءً، كما هي شوارع السيارات في المدن؛ إذن لأبصر مواضع قدميه فتجنب الحفر الصغيرة التي قد تكون موطنا للهَوَامِّ المؤذية، وأبصر الدرب أمامه فتجنب سعفةً مائلة أو مكسورة تعترض طريق السابلة، وأحس بالأنس والطمأنينة فاجتمع له ما تفرق من شمله.
وحين أتم بناء بيته؛ قرر –مدفوعا بذكرياته هذه، وأملا في نيل ثواب الصدقة الجارية- أن يجعل مصابيح بيته الأمامية مضاءة طوال الليل، يستنير بها السابلة في الليالي المظلمة، ويشيع الشعور بالأنس في المكان..
رُبَّ صدقة صغيرة أصابت من الخير ما لم تصبه صدقة كبيرة، وفي ذلك فليتفنن المتصدقون!

#بر | 35


بهداياهم يعرفون
- "لو أنني انتبهت لك؛ لأوقفتك، فقَسَمْتُ لك شيئا منها. لقد أخذت منها الكثير"..
كنت قد لمحته في سيارته عائدا إلى مسقط، فيما كنت راجعا –أنا الآخر- من (البلد) عقب الإجازة الأسبوعية، وكان قد مَرَّ على سوق (نزوى)، فوجد فيها أصنافا من فواكه الجبل الأخضر. ولأمر ما؛ اشترى منها ما يفوق حاجته.
فاجأني بكلامه هذا، حين قلت له إنني مررت عليه في الطريق. فاجأني فيه نوع هذا (الكَرَم). كرم صادق غير متكلف ولا متصنع. ما الذي يدعو إنسانا (مهما كانت طبيعة العلاقة به، ومستواها) إلى الإفصاح عن شيء لم يُسأل عنه؟ لقد كان في غنى عن قول ما قال، وغنىً (بكل تأكيد) عن التزلف إلى شخص مثلي.. ولكنها نفسٌ طبعت على الكرم!
لا ريب أن كل (الكرم) جميل، ولكن أجمله –على الإطلاق- هو ذلك الذي يأتي سَجِيَّةً، كيف ما اتفق وبأي ما اتفق.
قال يحيى بن خالد البرمكي: "ثلاثة تدل على عقول أربابها: الكتاب، والهدية، والرسول".

#بر | 36


عمران الكلام
"تْفُولِيَّة".. !!
خطرت بباله هذه الكلمة؛ حين قال له أحد زملاء الدراسة الثانوية إن من الكلمات المعتادة في بيتهم (لو سمحت/ من فضلك) إذا طلب أحدهم شيئا ما، و(شكرا/ أحسنت) عندما يقدم له الشيء، وهكذا.. يقولها الأب أو الأم أو الأبناء؛ لا فرق بين صغير وكبير، وطالب ومطلوب منه!
كانت كلمته تلك –التي تعبِّرُ (في لهجته الدارجة) عن عدم استساغة سلوك ما- تعبيرا عن إحساسه بأن تداول هذه الكلمات داخل البيت، يُشيع بين أفراد الأسرة الصغيرة أجواء رسمية لا تنبغي، ويقيم حدودا لا تُحْتمل بينهم..
ثم مرت السنوات، وعركت الحياة صاحبنا وعركها بقدر ما أنفق فيها من أيام عمره، فتزوج، ولاحظ أن زوجته كانت –في كثير من أحوالها- تحافظ على أن تقول له -كلما كفاها مهمة، أو أحضر لها مطلوبا، أو قام بشيء من شؤون البيت-: أحسنت، جزاك الله خيرا..
عَوَّدَتْ المرأة لسانها على أن يكون شاكراً دائما؛ فكل من أحسن إليها بجميل، صغير كان أو كبير، واجب أو مندوب؛ لم تغفل أن تشكره..
وبينما استنكر ما قاله زميله قبل نحو عشرين عاما؛ كان يتلذذ بكلمات الشكر هذه، ويُكْبِر في زوجته هذه العادة الحميدة!
إن كلمات الشكر تُعَمِّر بيوت الأزواج، وتُرَمِّمُ العلائق بين الإخوة، وتُؤَثِّثُ حياة أهل البيت بما لا تبلى جِدَّتُه على الأيام.

#بر | 37


دواء الكلمة
من أبيات بشار بن برد:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته /
وفاز بالطيباتِ الفاتكُ اللَّهِجُ
أخذ معناه (سَلْم الخاسر)، وكان أحد تلاميذه ومريديه، فوسع معناه وصفَّى عبارته، فقال:
من راقب الناس مات هَمّاً /
وفاز باللذة الجسورُ
ويروى أن بشارا قال بعد سماعه بيت (سَلْم): "ذهب والله بيتي".. متنبئا بأن بيت تلميذه سينال الشهرة أكثر مما ينال بيته، وهو ما كان بالفعل!
ولئن تنبأ (بشار) بشهرة البيت، فإنه ليس يدري، لا هو ولا (سلم)؛ كم من المهمومين ألهمهم هذا القول لتغيير أحوالهم.
بعث به إليَّ أخي مَرَّةً، في رسالة هاتفية؛ وكانت المرة الأولى التي أطلع فيها عليه. كنت مهموما بأمر ما، مثقلا بالتفكير في كلام الناس حوله، حائرا مترددا بين إقدام عليه وإحجام عنه.. تهاجمني الوساوس فيه من كل حدب وصوب كما تلوح لي الأفكار الملهمة من بعيد، وتترآى لي النهاية مقسمة بين أطلال داثرة وقصور عامرة.
وحين ردَّدْته متأملا فيه؛ فكأنما نَبَّه مني غافلا، ونفض عني ما كان بي من قلق؛ حتى رأيتُني أثب إلى ما قصدت، غير لاوٍ على شيء، وفزت –بحمد الله- بالطيبات واللذائذ كما قال (بشار) و(سَلْم).
إن للكلمة الطيبة أثرا كالدواء. لا ندري كيف تؤثر الكلمات، التي نكتبها أو نقولها أو نعيد نشرها؛ فيمن يتلقاها، وكيف تلهمهم باتجاه أحوال أفضل.

#بر | 38


مواساة
كان يتابع أخبار إعصار (فيت) في المذياع، يبحث عن قناة أوضح من غيرها ليسمع الأخبار، بينما يقود السيارة بالسرعة المسموح بها في أحد الطرق السريعة. وحين عثر على القناة؛ كانت السيارة تقفز بعنف فوق رصيف الشارع.
فَوْرَ أن أوقف السيارة لإصلاح الإطار المتضرر، انبرى له شابان لا يعرفهما من أهل المكان. عرفا أنه عابر سبيل محتاج للمساعدة، فأوقفا سيارتهما وانطلقا يصلحان الإطار، دون أن يدعا له فرصة المشاركة بشيء، كأنما كانت السيارة لهما وهو الذي مر عليهما فجأة!..
تذكر هذا الموقف الذي مرت عليه سنوات، وقد كانت تكفيه فيه (وقفةٌ مواسية) من الشابين فهي تعني له الكثير، ولكن الله قدر أن يُكْفى عناء الأمر كله..
تذكره وعيناه تغرورقان بالدموع حين مر على صفحات المدونين والمغردين العمانيين وغيرهم، حيث لا حديث لهم اليوم إلا إعصار (ميكونو). لقد تأثر حين رأى #عمان_تتكاتف_كلها من أقصاها إلى أقصاها..
هنا دعاء لله أن يكشف البلاء عن #عمان و#اليمن، وثمة دعاء للناس أن يأخذوا بأسباب الحيطة والحذر، وفي غيرها إعلانات عن مبادرات إخوة الشمال لمساعدة المتضررين من إخوة الجنوب.
يقيل الإنسانَ من عثراته مواقفُ نبيلة يقفها من حوله. وليس بالضرورة أن تكون مواقف بذل بالمال أو جهد بالحال، فقد تشفي الابتسامة الصادقة، وقد يحيي الدعاء المخلص، وقد تنجي الإشارة الذكية، وقد تهدي النصيحة الحكيمة. هنالك يشعر الإنسان أنه ليس وحيدا في الأزمات التي تشتت شمل النفس، وأن فؤاده في شيعةٍ من أفئدة أهله وجيرانه ومحبيه.

#بر | 39


صلاة العطر
وقف مستقبلا القبلة، وقبيل قراءته توجيهَ الصلاة؛ أخرج زجاجة العود، فتطيّب، وطيّبَني. كنا اثنين، وكان من عادته أن يتطيب وهو في طريقه للصلاة، كما يفعل كثيرون قبيل دخولهم المسجد؛ امتثالا لسنة التزين والتطيب في المساجد، وبقصد أن لا يشم أهل المسجد منهم ريحا غير طيبة، تتنغَّص بها صلاتهم.
وفي كثير من المرات التي كنا نذهب فيها للصلاة معا؛ كان يُحذيني من العود الذي لا يفارق جيبه.
هذه المرة، غير المرات التي سلفت؛ بدا لي وكأنه يتعطر لله -لله وحده-، بعيدا عما قد يخالط نية التطيب من هوى النفس وحظوظ الدنيا.
وإذن؛ فقد كان الرجل -من قبلُ- يستحضر المعنى العميق في طِيب المُصَلِّي، المعنى الذي قد يغفل عنه كثير من المتطيِّبين للصلاة..
كان الرجل الصالح يتهيأ للقاء الله بما يليق بمحب في حضرة محبوبه، وبما يجدر بمؤمن في الحصة الروحانية العظيمة!

#بر | 40


القليل الكثير
في بداية ظهور محلات التسوق الكبيرة في عمان، مثل (كارفور) وغيره؛ كان في كل مرة يذهب فيها للتسوق، يغتاظ من تلك العملات المعدنية الصغيرة التي يرجعها له المحاسب بعد كل عملية دفع نقدي.. خمس بيسات، عشر بيسات؛ ماذا يمكن أن يصنع بها؟!..
لا مكان مخصص لها في محفظته، ولا تسلم –إن وضعها في السيارة- من أيدي الأطفال أو أفواههم، ولا تقبلها المحلات الصغيرة التي يرتادها لحاجاته اليومية الصغيرة، وما أكثر ما غَيَّبَتْها (كُمَّتُه) المحشورة في خزانة ملابسه بين عدد كبير من (الكميم) و(المصار)!!..
كان يتمنى ألا يرجع إليه شيء منها، وكان يرجو أن يجد لها مصرفا سريعا ومناسبا. لقد كانت تلك –بحق- أحد معضلات التسوق الحديث لديه، حتى انتشرت حصالات المجموعات والمشروعات الخيرية عند طاولات المحاسبة..
في تلك الفترة، أو بعدها (بقليل أو كثير)؛ كانت امرأةٌ -في مكان آخر- تُحصي ما تحصل لديها من جمع هذه العملات المعدنية. مجموع ما تحصل لديها هذه المرة مائتا ريال كاملة. من كان يظن أن تلك العملات المعدنية، غير المنظور لها؛ يمكن أن تصل إلى هذا الرقم؟.. وإذن فهي تستطيع الآن أن تشارك في شراء بعض ما تحتاجه المدرسة من أجهزة العرض، كما تستطيع أن تنفق شيئا من المبلغ في مساعدة أسر فقيرة وعون بعض المحتاجين.
وربما، وهي تتأمل هذا الرقم؛ تذكرت يوم أن عمدت إلى توزيع حصالات على صفوف المدرسة، كي تضع الطالبات فيها ما يتبقى لديهن من العملات المعدنية. كانت الحصالة التي تخرجها عريفة الفصل صباح كل يوم دراسي وتعيدها إلى مكانها نهاية اليوم، تمتلئ شيئا فشيئا. وفي نهاية العام كانت خلية نحل من زميلاتها المعلمات يشاركنها فرز هذه العملات، قبل التوجه بها إلى البنك، واستبدالها بعملات ورقية.
آمنت هذه المعلمة الفاضلة أن (القليل بالقليل يكثر)، وتأملت في أعمال خيرية ضخمة فرأت أن فكرةً صغيرةً يؤمن بها الإنسان –في هذا السبيل- قد تفضي إلى نتائج عظيمة.. المهم أن يبدأ العمل، ثم تُعَزَّزُ مسيرته بالتطوير والابتكار؛ حتى يستمر ويتواصل.

#بر | 41


صراط مستقيم
صْطلب".. "اصْطلب".. "اصْطلب"..
ترن في أذنيه هذه الكلمة، بجرس رتيب ممل، وتكرار لا يستطيع أن يحصيه.. يبعثها أبوه -الواقف عند رجليه- من معجم الكلام اليومي، دونا عن غيرها؛ في الوقت نفسه الذي يبعث فيه عصاه لتلسع باطن ساقه، فتتناغمان بشكل غير مريح للصبي الذي يقارب البلوغ..
لماذا لم يختر أبوه كلمة غيرها؟ لماذا لم يقل (قوم)، أو (انهض)، أو كلمة تشبه كلمات الأذان مثل: (صلاة)، أو (عن تفوتك الصلاة)، وغيرها..
يتساءل، كلما تذكر الموقف، ويعترف –مبتسما- بعد سنوات عديدة؛ بأنه لم يعرف –حتى الآن- سر اصطفاء أبيه لهذه الكلمة، ولكن الذي يعرفه أنها كانت بغيضة الوقع في تلك اللحظة، كما هي مخترعات أبيه في العقاب، وربما كانت كذلك لحمولتها المعنوية في سياقات أخرى، وربما لاقترانها بلسعة العصا في الوقت الذي يَلَذُّ فيه النوم!
مَرَّت الأيام على الفتى، حتى كان من بين أؤلئك الفتية الذين أخذت بألبابهم حكايةٌ سمعوها –غيرَ مرة- عن أشياخهم، في حلقات العلم..
لم تمر عليهم الحكاية كما مرت على كثيرين غيرهم، أو كما مرت عليهم هم حكايات كثيرة مثلها. كانت حكاية ملهمة، وكان في مضمونها ما يدفعهم إلى أمر ما. حين أعاد أحدهم سرد الحكاية المختصرة؛ كانت أسماعهم تسحب الكلمات -من فم السارد- واحدة بعد الأخرى، كما يفعل الصياد الماهر بخيط السنارة، وكانت أرواحهم تمتلئ بمعانيها كما يمتلئ الكوب بالماء المنسكب من صنبور ثلاجة المياه أعلاه.
كانوا خمسة أو سبعة، في غرفة واحدة جعلت مكانا لمعيشتهم ونومهم؛ وكان يجمعهم صادق التدين وحب التعلم على الشيخ الصالح الذي يؤمه الكثيرون من كل حدب وصوب.
اتفقوا على تقاسم الليل، فبعض له ثلثه الأول، وبعض ثلثه الثاني، وبعض ثلثه الأخير. اتفقوا على قيامه كما كان يحكى عن الحسن بن صالح أنه كان، وأخوه علي، وأمهما؛ قد جَزَّأوا الليل ثلاثة أجزاء، فكل واحد يقوم ثلثا، فماتت أمهما، فاقتسما الليل، ثم مات علي، فقام الحسنُ الليل كله!
..
ربما تقيم الإنسان من مرقده حكاية ملهمة، فيمشي سَوِيّاً على صراط مستقيم؛ بينما لا تفعل العصا والكلمة الغليظة إلا أن تسوقاه مُكِبّاً على وجهه.. فأي الحالين أهدى؟!

#بر | 42


اتق الله
سكت قليلا، وازدرد ريقه، ولم يدر ما يقول. كان كمن يحاول ابتلاع شيء عسير المضغ. صدمته العبارة التي نطق بها صاحبه. فاجأه بها –على حين غفلة منه-، فتبخرت كل الأفكار والجمل التي كان يتدرَّع بها في جداله. بماذا يمكن أن يرد المرء على من يقول له في موقف جدلي: اتق الله!..
بدا وكأنه يتذكر شيئا ما، وربما كان قول ربه: "وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم"، أو قول نبيه: " وأبغض الكلام إلى الله أن يقول الرجل للرجل: اتق الله، فيقول: عليك بنفسك"..
- اتق الله..!
كأنما يتلقاها أول مرة، وكأن صدره الجبل الذي وصفه الله عز وجل: "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله"، وكأن العبارة الصغيرة مطرقة القاضي قبيل نطقه بالحكم.
هنالك تراجع وسلم لصاحبه بما يقول. وكان، وهو يرجع أدراجه؛ يجتر الآية، ويتأمل العبارة، ويتساءل بينه وبين نفسه: كم جدلا يدور بين الناس كانت أطرافه تتغيّا الانتصار للحقيقة وحدها، وكم جدلا كان غاية أطرافه إثبات الذات والانتصار للهويات الضيقة؟..
المنتصرون للحقيقة لا تأخذهم حميّة الجاهلية بإثم إنكار الأدلة القاطعة، لأن (الحقيقة) وحدها غايتهم، جاءت على لسانهم أو على ألسنة غيرهم..
إنهم ليسوا كأصحاب الأهواء الرخيصة الضيقة، لسان حالهم قول السموأل:
وننكر -إن شئنا- على الناس قولهم / ولا ينكرون القولَ حين نقولُ !

#بر | 43


إخوة القرآن
-        (يَهِدِّي) ما (يَهْدِي)!..
-       يا إلهي، كيف فاتني أن أنتبه لهذا، أنا دراس اللغة العربية في الجامعة، وغيرها؛ فيما انتبه لها الرجل العامي..!
هكذا حدثتني نفسي؛ حين أصلح لي الرجل خطئي في نطق كلمة (يَهِدِّي) في سورة يونس، من قول الله تعالى: "أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى"!
|
كانا اثنين. ولست أدري متى بدأتْ لديهما هذه العادة. المؤكد أنهما حافظا عليها طوال أكثر من خمس وعشرين سنة -هي الفترة التي أنفقتُها، حتى الآن، منذ بدء ذهابي إلى المسجد صغيرا-، وما زالا كذلك.
كان أحدهما يعمل في إحدى شركات النفط، فيما اشتغل الآخر بتعليم صبية القرية القرآن الكريم في الكُتَّاب.
كان الأول حين يعود إلى القرية في الإجازات لا ينفك عن المصحف في المسجد، وحين تقاعد كانت لديه فرصة عظيمة للتعبير عن حبه للكتاب المقدس، فلا يكاد يُرى مشتغلا بغيره قبيل كل صلاة. تقاعد أخوه أيضا، بعد أن لم يسمح له العمر بالاستمرار في وظيفته، فأُغْلِق الكُتَّابُ، ولكن قلبَه ظل مفتوحا لكتاب الله العظيم.
ومنذ أن تقاعد كل منهما؛ نهض في صدري كل منهما ما يشبه النظام الوظيفي. نظامٌ وظيفتُه ترتيب يومهما على سور القرآن الكريم وأجزائه. فإن دخلت المسجد قبل أي صلاة وجدت كل منهما في زاوية، ومعه مصحفه الذي اشتغل به عن الناس. وفي كل يوم؛ بعد أن يُنهيان طقس المصافحة عقب صلاة الفجر؛ تراهما وقد جمعتهما حلقتهما اليومية، مع آخرين؛ يُتِمُّون خلالها جزءا كاملا من القرآن الكريم. وفي هذه الحلقة أصلحا لي خطئي في نطق الكلمة.
شقيقان؛ اجتمعا على حب كتاب الله، فاجتمع لهما به رابطة أخرى غير رابطة الدم. رابطة لا تكدرها هموم الحياة ولا أوهامها، وبها تترآى للإنسان الجنة ونعيمها من حيث يرى الناس الدنيا وشقاءها..
على هديه.. لما اجتمعنا؛ تفرقت / همومٌ، وأوهامٌ، وقَرَّتْ نواظرُ
وأسبلت الدنيا علينا نعيمَها / ألا بهُدى القرآن تصفو السرائرُ
وعلى كبر سنهما؛ فإنهما –ولله الحمد- يتمتعان بصحة وعافية، وأظن أن مشيتهما لم تختلف كثيرا عن أيام الشباب.
في القرآن بركات ظاهرة وخفية؛ يا أولي الألباب!


#بر | 44


سباق
كان يسابق لحظة السقوط..
ماذا كان بإمكانه أن يعمل، وما يراه ويتخيله يتجاوز إمكاناته بكثير؟..
لم يكن يملك –تلك اللحظة- إلا هاتفه. أخرجه من جيبه، والتقط صورا لزوايا المكان، ثم مر على الصور واحدة بعد الأخرى حتى يتأكد أنها تعبر بجلاء عن حقيقة الوضع. قاد سيارته، وربما لم يكن يرى الطريق من أثر السؤال الذي كان يقود كل أركانه ومشاعره: من لهذا الأمر؟ هل من ركن شديد يأوون إليه؟
قضى أيامه اللاحقة، يسأل عن تكلفة المشروع، والمدة التي يحتاجها، وغيرها من الأسئلة المهمة قبل البداية.
وحين اتضحت الرؤية أمامه؛ فتح تطبيق الواتساب، وكتب رسالته: "كنا قد عقدنا العزم –بتوفيق الله- على أن نشرع في ترميم الغرف المتضررة، ولكننا استشرنا أصحاب الخبرة والاختصاص في هذا المجال، فأشاروا بأن الأسلم هو إعادة البناء من جديد".
أخبره أهل الخبرة بأن التكلفة الإجمالية 25 ألف ريال عماني.
من أين يأتي بهذا المبلغ كله؟!..
عقدت الأسرة عليها آمالها، حين رأته يلتقط الصور ويتكلم كلام الواثق بنية إصلاح غرف البيت المتهالك السقف، رغم أنه لم يكن يملك من التكلفة ألفا واحدا في جيبه. كان غنيَّ اليقين بأن الله يسير بالنوايا الحسنة إلى غاياتها، وقد كان يتصرف كأن المبلغ بأكمله قد توفر لديه..
بدأ ببعض الأعمال التحضيرية اللازمة، وأضاف في رسالته: "وقد انتهينا –بحمد الله وتوفيقه- من تصميم خرائط المنزل، وشرعنا قريبا في أعمال البناء، ونرجو دعمكم ومساندتكم في هذا الصدد"..
طيّر (الواتساب) الرسالة في الآفاق، وجاءت التبرعات إليه زرافات ووحدانا. لم يخب ظن الأسرة فيه، وكان أن انتقلت إلى بيتها الجديد بالكامل بعد حوالي سنة ونصف من البناء، وربما تذكر أفرادها غرف المنزل التي كان يتناولها القدم وخلل البناء من كل مكان، فأحسوا بالامتنان لله، ثم للرجل الذي تغير بفضله حالهم.
كان الرجل يتابع بناء البيت خطوة بخطوة، حتى اكتمل. وكانت له من بعد هذه التجربة تجارب في قريته وخارجها، بل خارج الوطن بأكمله.
رجل مسلح باليقين، وبهاتفه الذي يشاركه أعماله الخيرية. وكان لسان حاله، وما زال؛ يقول: "رب كلمة أحيت همة فأيقظت أمة"!

#بر | 45


صدقة الكلمات
فتح أذنيه كما لم يفتحهما من قبل. كان يستمع بانتباه شديد لما يقولونه. يهمه تحديدا مقطع معين من الكلام في المشهد..
- شيء علوم؟
- أبدا..
- ما شيء خبر؟
- سكون. ومن صوبكم. ما شيء أخبار؟
- بهو.
- ما شيء علوم؟
- تسلم وتدوم.

منذ أن بدأ يعقل الكلام وهو يسمع هذا المقطع الخالد في مشهد اللقاء بين الناس، ولكنه لم يكن يعيره الاهتمام الكافي، فقد كان استخدامه حكرا على الكبار. أما الآن وقد تحسس غلظة في صوته واخضرارا في شاربه؛ فقد بدأ يستشعر مسؤولية ما تجاهه. بماذا سَيَرُدُّ إن لقيه أحد الكبار فحيّاه وسأله، وبماذا سيبتدئ الضيف الذي سيأتي وأبوه غائب عن البيت؟!!.. لا بد أن يحفظه، كما يحفظ اسمه، ويأتي به تلقائيا دون تردد أو ارتباك.

بدأ التمرين عليه، بينه وبين نفسه، ينجح تارة ويتعثر أخرى. ثم انتقل إلى تجريبه مع أحد الكبار، فلو رأيت وجهه حينئذ لحسبت أن خديه قشرة الطماطم نظيفةً لامعة.
كان يهمه -أول الأمر- أن يحفظ المقطع القياسي، وهو الإجابة بالنفي على السؤالين المهيبين: (ما شيء علوم؟/ ما شيء أخبار؟)؛ وإلا فقد لاحظ مبكرا أن بعضهم يتفنن في الإجابة، كأنما أراد أن يصعِّب الأمر قليلا على المتدربين من أمثاله، أو كأن الأمر فيه مستويات من الخبرة الكلامية؛ فعِوَض أن يجيب بالنفي مثلا على السؤال الأول (ما شيء علوم؟) يقول (بهو)، أو (سكون)، أو (ساكنة الدار)، أو (علوم الخير).. وهكذا الشأن في السؤال الثاني: (مسرات) أو (مسرة خاطرك) أو (كوس)، أو (كوس هابّة وغديرٍ صافي)، وغيرها.

بعد المران والدربة؛ استطاع صاحبنا أن يحفظ المقطع القياسي، وكان -من حيث لم يعد يشعر- يتنقل كالطير من غصن إلى غصن في شجرة الجواب على مثل هذه الأسئلة الحيوية..
ثم بدأ ينتبه إلى الكلمات التي تقال في سياقات أخرى، فأحب أن يكون له معجمه الخاص، الذي يبنيه من الإنشاء البكر أو التحسين فيما يسمعه من ألفاظ. أراد أن يكون جوابه في السياقات كلها فريد الوقع حين يُعبِّر عن ذكر الله وشكره وإظهار الامتنان له عز وجل. وبدأ يعتمد الكلمات ذات الإيحاءات الإيجابية المريحة، في الوقت الذي حاول فيه التخلص -قدر الإمكان- من كلمات فيها حمولات سلبية.

وقد لاحظ أن تلك الكلمات التي أنتجها بنفسه، التقطها بعض أقرانه في العمر، وأخذوا يعيدون إنتاجها في معرض أجوبتهم على أسئلة اللقاء. كان سعيدا بهذا، وقد نوى أن تكون الكلمات الإيجابية التي ينثرها في مفاصل كلامه صدقةً لتحسين بيئة الكلام، وتوفير قاموس جميل يمتح منه من شاء.

الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة كما في قول الله، والكلمة الطيبة صدقة كما في قول الرسول، والكلمة الحلوة تفتح الأبواب الحديدية كما في أمثال بعض الشعوب.

#بر | 46


صديق
تهدج صوته، ثم انقطع للحظات عن المتصل. كان يبكي متأثرا بالخبر السعيد..
- مبارك يا أخي، مبارك عليك..
لم يستطع المتصل أن يغالب هو الآخر دموعه؛ بأثرٍ من هذا، ولكونه هو الأولى بدموع الفرح هذه أكثر من غيره لأنه صاحب الخبر السعيد، أراد أن ينقل الخبر لصديقه الذي شاركه كثيرا من تفاصيل حياته.

•• هل قلت (صديقه)؟..
إنها ليست الكلمة الصائبة هنا!..
هذا أخوه الذي لم تلده أمه و لا أبوه، ولم يجمعهما نسب و لا عرق، و لم تُعْرِّف بينهما مصلحة أو رزق، ولكنه الحب في الله فحسب..

مرت الأشهر على زواج المتصل دون أن يبدو أثر لذرية قادمة. كان هو وزوجته يتحدثان فيما بينهما في الأمر حديثا رقيقا، غير شاكٍ ولا متذمر، وكان الأمل العذب الطاهر هو سائقهما ودليلهما في كل مرة. أما المجتمع من حولهما؛ فقد كان -كأنه المعني الأول والوحيد بالأمر- يتساءل (في أغلب الأحيان) بأسلوب فج غليظ بغيض. وكان المحبون الصادقون من داخل هذا المجتمع وخارجه يتعاطفون مع الزوجين بالدعاء وسَوْقِ الآمال العراض..

صديقه هذا الذي اتصل به؛ كان يتابع الأمر بسؤال مهذب لطيف بين فترة وأخرى، وكان يتأسف لنظرات المجتمع المحاصرة، ويدعو الله أن يُرزَق صاحبه بالذرية الطيبة المباركة..

وحين قال الله: (كن)، وبُشِّر أنه على موعد مع مولوده الأول؛ لم ينس في غمرة البكاء والفرح أن يتصل بأخيه هذا، في أوائل من اتصل بهم من دائرته القريبة، فبادله البكاء والفرح، وقال له الجملة التي لم ينسها بعد حوالي 12 عاما: أسعدتني جدا بهذا الخبر. كأن المولود ولدي وأنا أبوه!

كان المتصل يعلم صدق أخيه فيما يقول، فقد جربه في مواقف كثيرة. كان كلما سمع (مثلا) بحاجة ما عند أخيه؛ ضرب الأرض طولا وعرضا حتى يأتي بها أو بخبرها، كأنه هو صاحب الحاجة.

(صديقٌ) قلما يجود به الزمان، ومن يكن لديه مثل هذا؛ فليَعَضَّ على صحبته بالنواجذ. قال بلوطس: "إذا كنت تملك أصدقاء، إذاً انت غني"، وقال عبدالله السابوري:
من فاتَه ودُّ أخٍ مُصافِ / فعيشُه ليس إذن بصافِ

#بر | 47


ضحاكة!
يعجبه أحيانا أن يتصور بعض المشاهد الواقعية، التي حدثت من قبل، أو تلك التي ستحدث لاحقا؛ على نحو مضحك. يضيف إليها زيادات من عنده، كما يفعل كتاب السيناريو في بناء المشاهد التمثيلية.
عادة لست يدري كيف اكتسبها، ومتى، ولكنها –قطعا- ذات صلة بطبع أمه التي تصف نفسها دوما بأنها (ضحَّاكة)..
يقول: (حين تضحك أمي في البيت؛ تنبت الزهور في الجدران، وتتحول غرف البيت إلى حدائق معلقة. تنبعث ضحكتها الصافية، وتكاد تشرق بالدمع، من نظرة أو تعليق أو سلوك؛ فيها من الدعابة ما تحتمله اللحظة، وما لا تحتمله أحياناً. كانت ضحكة أمي -وما زالت- دواءً، وهديَّةً، وحياة).

لا تسائل أمه المواقف إن كانت تستدعي الضحك، أم لا؛ بل تطلق لنفسها العنان، لتستجيب بتلقائية للحركات والكلمات الطريفة التي يأتي بها أولادها، وترفع طرف لحافها لتخفي وجهها الضحوك. هذا لا يعني أنها لم تكن تغضب، أو أنها لم تكن تنهر أطفالها كلما أساءوا التصرف في موقف ما، كلا.. فهي كسائر الناس لها أحوال مختلفة من التفاعل مع الأحداث من حولها، ولكن (ضحكتها) الجميلة تظل العلامة الأولى أو المهيمنة كلما ذكرها؛ أكثر من أي شيء آخر.

يقول: (كنا مرة، ونحن صغار؛ في نوبة إزعاج وشقاوة طفولية. قالت أمي: "إن من يسمع هذه الأصوات المزعجة يحسب أن في البيت (20) ولدا. لدى الجيران أولاد كثر، ولا أحد يسمع أصواتهم"، -أو كما قالت-.. ورغم هذه الأصوات العالية التي حافظنا على بقائها في بيتنا إلى أن كبرنا وعقلنا –كما يقال-؛ فإن أمي تعلم أن أولادها جميعا لديهم حس الدعابة وقابلية الاستجابة للحظة المضحكة بسهولة).

البيوت الضاحكة أكثر قدرة على مقاومة عواصف الحياة. الضحك دواء ناجع، وهو "المسكن الوحيد بدون أعراض جانبية" كما يقول عبدالله الداوود. لا تمنعوا الضحكات أن تفيض في سياقاتها الطبيعية، ولا تلقوا بأيديكم إلى مهالك الحزن أو الصمت أو العزلة.
"اليوم الضائع بحق؛ هو اليوم الذي لم تضحك فيه ضحكة"، كما يقول نيكولاس تشامفورت.

#بر | 48


جابر
-  نفسي مضطربة يا محمود.
-  لماذا؟ ..
-  تذكرت القبر وغربتي فيه.. غيَّرتُ موضع مرقدي يوما ففارقني السكونْ / قل لي فأوَّلُ ليلةٍ في القبر كيف تُرى أكون!
،،
ما يزال (محمود) يتذكر هذه الحوار الذي دار بينه وبين صديقه الشاب في موقف ما، كما يُذكِّرني أنا (فيسبوك) بالشاب نفسه بين فترة وأخرى. لو كان (فيسبوك) يعقل؛ لقلت له: إنني لا أحتاج إلى أن يذكرني بهذا الإنسان أحد، لأنه أقرب إليَّ من أن أنساه. ولكنه ما فتئ يذكرني بعمر الصداقة بيننا في واقعه الافتراضي، وبتعليقاته الودودة في كثير مما دونتُه في الفضاء الأزرق. كانت تعليقاته –رحمه الله-، وتدويناته المستقلة معبِّرةً عما تشتمل عليه نفسه من المعاني الإنسانية الخيرة، والقيم الطاهرة النبيلة، والتدين الصادق الواعي.

ورغم هذا التذكير الذي لا أحتاج إليه؛ فإنني ما زلت أشعر –مذ بلغني خبر وفاته- أنني لم أره بما فيه الكفاية، وأنني لم أجلس معه، ولم أتعرف عليها كما ينبغي..
كأني (أبا زيد) لقيتُك مَرَةً / وإن جمعتْنا قَبْلَها مِرَرٌ كُثْرُ
كأني لم أَعْرِفْكَ إلا مُوَدَّعاً / أحاط بك الأهلونَ إذ خُتِمَ الأمر

كان (جابر) ولم يزل في ذاكرتنا، الشاب الودود صاحب الحضور اللطيف. قلت هذا لصديقي (أحمد) الذي اتصل بي معزيا، عند وفاته قبل ستة أشهر، فقال لي: أنا لا أعرف هذا الرجل على أرض الواقع، ولكن حين رأيت صورته خرجت بمثل هذا الانطباع عنه.

لم يكن (جابر) يتكلم كثيرا في المجالس التي تجمعنا مع أفراد العائلة في المناسبات المختلفة، ولم يكن حاضرا بقوة أيضا في هذه المناسبات. كان يكتفي بحضور باسم لطيف، وكانت شخصيته تميل –في رأيي- إلى الانعزال المشوب بالحضور أو العكس، فهو يحضر المناسبات العامة، ولقاءات العائلة –بشكل عام-، ويتحدث مع من يجاوره في المجالس، ولكنه قد لا يتحدث بكلمة واحدة إذا لم يتوجه إليه الكلام أو لم يجد أنه طرف في هذا الحوار أو ذاك. هل كان مسكونا بالرغبة في الاستماع أكثر من الرغبة في الحديث؟!.. لست أدري..

ولست أدري ماذا كان قد خطط للعام الجديد الذي رحل عنه قبل ستة أيام فقط: .. يتزوج؟.. ينتظر اكتمال البيت الذي شرع في بنائه؟.. يبدأ مع أبيه في بناء مجلس جديد للضيوف؟.. ماذا كانت مشروعاته الخيرية الخفية التي لم يخبر عنها أحدا من أهله في حياته؟.. أسئلة حسم إجابتها الموت، وكفى به واعظا.
فتىً أخلص الأخرى حقيقةَ قلبه / سعى، وتخفَّى سِرُّه، شأنَ من بَرُّوا
يُغِذُّونَ بالتقوى الخفيَّةِ سَيْرَهم / إلى اللهِ، والآمالُ في قُرْبِهِ زُهْرُ

كان (جابر) مصابا بمستوى غير حاد من مرض (فقر الدم المنجلي)، وكان -على فترات متباعدة متفرقة- يقضي في المستشفى أياما إثر مضاعفات مرضه هذا؛ فهل كان هذا وراء سعيه مع أحد رفاقه لشراء ملابس للمرضى من كبار السن وتوزيعها عليهم، يطوفون بها من مستشفى لآخر في مسقط؟
وكان أخوه الذي يكبره معوقا منذ أن ولد، جعلته الإعاقة صغيرا محتاجا إلى المساعدة كالطفل الرضيع، لا يقدر على شيء من أموره؛ فهل كان هذا وراء سعيه لشراء عدد من الكراسي المتحركة ليستخدمها ذوو الاحتياجات الخاصة؟
وكان رقيق النفس –رحمه الله-، برا بوالديه وإخوته، يصل رحمه وقرابته؛ فهل كان هذا وراء تأثره البالغ حين وفاة (المرأة العجوز)، وهو بعيد عن القرية في صور؟ كان يعتبرها أمه الثانية، لكونها خالة أمه، وكان يعلمها بعض سور القرآن حين عودته في الإجازات.
حَمْلَتَ على الكرسيِّ من عَوَّق البِلى
وأَسْقَيْتَ عَذْبَ الماءِ من أَعْطَشَ الفَقْرُ
وساقك قُرْآناً إلى من تَشَوَّفَتْ
هدى الله في قرآنِه؛ - أبدا – بِرُّ

وكانت له أعمال في الخير كثيرة؛ كشف عنها أصدقاؤه ومحبوه، بعد وفاته، ولم يكن أهله يعلمون عنها شيئا، فكانت سيرته في المجالس عطرة بذكر هذه الخصال عند الصغير والكبير، من عرفه في أرض الواقع، ومن لم يعرفه إلا في الواقع الافتراضي..
وكنتَ حديثاً في المجالسِ كلِّها / حديثَ الندى صلَّى عليكَ به العِطْرُ
وصلى عليك اللطف.. بوركت سيرةً / تطيرُ بذكرِ المؤمنِ السيَرُ الخُضْرُ

قبل أشهر من وفاته؛ نشر على صفحته في (تويتر) هذه المقولة: "كل الذين ماتوا قبل دقيقة ظنوا أن الموت شيئا بعيدا"، وفي ليلة وفاته، قال لأمه التي كانت تنام معه في الغرفة نفسها: إني أرى ما لا ترين.. وكانت كلماته الأخيرة: شهداء بالملايين.. شهداء بالملايين.. انتظروني سآتي معكم، سبحانك إني كنت من الظالمين. هنالك فاضت روحه الطاهرة، على مرأى من أبيه وأمه، ولم يَدُرْ بخَلَد من رآه في الساعات التي تلت حتى غطي جثمانه إلا أنه نائم قرير العين، وكانت مخايل ابتسامة وسكينة ورضا على محياه!
فتى نشر الأيام خيرا، كما طوى / لياليه في الدنيا -على خيرةِ- قبرُ
فيا رحمةَ الرحمن زوريه جابرا / وزوريه مجبورا وليس به كسرُ

#بر | 49


أمانة
- تفضل..
كان زميله في العمل يطرق الباب بهدوء.
- أهلا وسهلا، حياك الله.
دخل الزميل، وهو يجر ابتسامته اليومية التي حافظ عليها لسنوات عديدة. يبدو مرتبكا بعض الشيء، على غير عادته.
بعد عبارات الترحيب، وأسئلة وأجوبة غير مهمة؛ قال له زميله الزائر (وشيء من الحرج يبدو على محياه): هل يمكنني استخدام هاتف المكتب؟ أريد الاتصال بأحد الأصدقاء..

تذكر حينئذ رئيس القسم في مكان عمله السابق. كان يطوف على الأقسام كلها تقريبا من أجل أن يجري مكالماته الخاصة. يتكلم في هذا القسم مع أمه "كيف حالش ماه، متى تزورينا في مسقط؟"، وفي القسم الآخر مع أحد إخوته الصغار: "أنا أخوكم الكبير وأعتبر نفسي أبوكم بعد وفاة الوالد الله يرحمه"، وفي قسم ثالث مع أحد المقاولين: "بكم قيمته؟.. انزين ما مشكلة، أبغاك تجيب العمال باكر.."، وهكذا..
كان يفعل هذا على الرغم من وجود هاتف في قسمه مزود بصلاحية الاتصال الخارجي، ولكنه -فيما يبدو- كان يفضل توزيع قيمة اتصالاته الخاصة على هواتف الأقسام مجتمعة، حتى لا يتفرد قسمه بالفاتورة المرتفعة من بين الأقسام كلها، فيتعرض للمساءلة. ولم يكن رؤساء الأقسام –في المقابل- يعترضون على فعله هذا، ربما بسبب اعتمادهم الحيلة نفسها، وربما احتراما لقدم الزمالة بينهم، وربما تعاطفا معه بسبب بعض أحواله الاجتماعية، وربما حذرا من تعنيفٍ محتمل بصوته العالي الذي يكاد يسمع في أروقة المؤسسة الحكومية كلها..

وربما تذكر أيضا قصة عمر بن الخطاب حين استأذن الناس في استعمال شيء من العسل الموجود في بيت مال المسلمين -حيث وُصِفَ له دواءً من مرض ألم به-، قائلا لهم: إن أذنتم لي، وإلا فهو عليَّ حرام!..

حين استحضر هذا كله، أراد أن يكون حازما وصادقا وأمينا، فيدرأ بهذا كله أحوالا من الفساد غير الملتفت إليه:
-  أعتذر إليك. أنا مؤتمن على هذا الهاتف، لا أستخدمه إلا فيما يخص العمل أو المصالح العامة. في الأمور الشخصية أستخدم هاتفي الخاص، وأنصحك أن تفعل ذلك لأنه مال عام..

#بر | 50


إلهام
كاد أن يخرج من جلده فرحا حين علم أنها أحرزت المركز الأول. أخيرا حصدت ثمرة اجتهادها، وحق لها أن يفرحوا لفرحها كما فرحت هي بإنجازاتهم من قبل.

- قُبلة على رأسها لن تكفي، ولا الهدية التي قد تشبهها كثير من الهدايا، و لا حفلة صغيرة في البيت يؤمها الأهل جميعا، و(العمرة) -على فضلها- هل ستكون شيئا جديدا؟..
كان يفكر في مظهر فَذٍّ من مظاهر التكريم، لحبيبته الأولى.

- يكفيني أن أرى فرحتك هذه، يا ولدي.
كان هذا لسان حالها، وكان لسان ذكرياته هو يقول الكثير. تذكر كيف كانت أمه له منذ أن دخل المدرسة.
هل ينسى حين كانت -وهي ابنة زمان لم تتوفر فيه المدارس النظامية- تذاكر له دروسه بعد أن يرجع مثقلا بحقيبة صفوفه الأولى، وهل ينسى يوم أن استطاعت- بقدرة قادر- أن تكتب له واجب الصف الأول وهي التي لم تتعود كثيرا الإمساك بالقلم، ولم تتمرن -من باب أولى- على الكتابة، ولم يكن لديها من العلم إلا ما حصلته من الكتاتيب. كان مريضا يومها، فلم تملك الأم، المدفوعة بقوى الحنان وقوى الذكاء الذي طبعت عليه؛ إلا أن تكفي ابنها الصغير ما شق عليه!
هل ينسى كل هذا، فلا ينتبه لها الآن كما انتبهت له هي من قبل..

- أنا فخور بك يا أمي!
كان هذا لسان حاله ومقاله، وكانت بين عينيه كالتلميذ المتفوق، أو كأن الأدوار بينهما قد تبدلت فصار هو الأب وهي ابنته التي ينبغي أن يتعهدها بالمتابعة والتعزيز..
ولطالما كان يحدث نفسه ورفاقه، إبان فترة دراسته الجامعية؛ بأن أمه -على ما يرى فيها من أمارات النبوغ وحب التعلم- جديرة بأن تحظى بدراسة نظامية.
كأنه كان يقول: أليس من حق هذه المناضلة أن تحظى بمثل ما حظي به ولدها؟..
وكأن الله استجاب لسؤاله، فكانت تفاجئهم، سنة بعد سنة، بتفوقها على جميع زميلاتها في صفوف محو الأمية التي تم افتتاحها في القرية..

والآن، وقد استطاعت -بتوفيق الله-، أن تضيف إلى تفوقها الدراسي، حفظ جزء (عمّ)؛ فقد تأكد لديه أن أمه، المحبة للعلم، المجتهدة في تحصيله؛ كانت أحد منابع الإلهام في حياته.. وربما -من حيث يعلم أو لا يعلم- كان هذا أحد الدوافع العميقة التي تدفعه اليوم إلى تبني مبادرات صنع المجتمعات القارئة.
لله دره، ولله أمه!

#بر | 51


أخلاق
لم يكن الحديث بينهما في شأن شخصي خاص، ولا في صفقة تجارية، ولا في شيء من أحداث السياسة أو أحاديثها..  لم يكن –إجمالاً- فيما يُحَاذَرُ أن يطلع عليه أحد من غير أصحاب العلاقة. كان حديثا معتادا، تدور في الملأ العام عشرات الأحاديث مثله.
-  أستأذنك في استخدام مكبر الصوت.
قال للمتصل، وهو يبعد الهاتف عن أذنه ليضعه على طاولة أمامه. كان يريد تدوين بعض البيانات التي يتحدثان فيها. وأردف قائلا:
-  لديَّ هنا أحد الأصدقاء، وهو يسمع المكالمة.
أراد الرجل المهذب أن يضع المتصل في صورة الوضع الذي لا يراه، رعايةً لحقه في أن يعلم من يستمع لكلامه، فيختار –على بَيِّنة- ما يناسب من الكلام، ويدع غيره.
كأنما جعل نفسه مكانه، فهل كان سيسر أن لو أرسل نفسه على سجيتها -كما هو شأن المرء مع خاصته- بلا تحفظ ولا قيود، ثم علم -من بعدُ- أن كلامه ذاك كان مسموعا لأطراف أخرى، لا يحب الظهور أمامها بهذا المظهر؟!..
وإذن؛ فقد أراد أن يكون أمينا، وفي مستوى عال من الخلق الحسن: يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويحفظ له حقوقه، ويحميه من زلات اللسان.

#بر | 52


كائنات المسجد
في المسجد الذي صليت فيه سنوات عديدة؛ ظهر -فجأة- رجل أبيض اللحية، طويل القامة، متوسط البنية بين القوة والضعف. كان يبدو في أواسط العقد السادس من العمر، وفي محياه ومظهره علامات من الحياة التي صال فيها وجال.

بدأ الرجل يرتاد المسجد، فكان من المحافظين فيه على صلاة الفجر، يسبق إلى الأذان أحيانا فيؤذن، ثم يمكث بعد الركعتين في مجلسه قارئا للقرآن حتى الإقامة؛ فإذا قُضيت الصلاة لم ينفكَّ عن مسجده حتى يصلي سنة الإشراق.

بعد أن ينهي الإمام الصلاة ثم الدعاء، وينتهي الناس من مصافحة بعضهم بعضا؛ كان يمكث في مكانه، وفي يديه مسبحة يدير بها الأذكار التي يفيض بها لسانه، فيما يتدفق وجهه وقلبه بمعانيها. وحين يخلو بطن المسجد من المصلين فلا يبقى منهم فيه إلا عدد الأصابع تقريبا؛ كان هو يخلو خلوته الفريدة مع الذكر والتسبيح. يقوم من مجلسه، حاملا مسبحته ومحمولا بها، فيطوف على أضلاع المسجد، بطنِه وصحنِه، بلسانٍ وأركانٍ مُسَبِّحَةٍ ذاكرة. يأتي بالباقيات الصالحات وغيرها، بنظام عددي تعوَّد عليه.

وقد رأيته في أحواله هذه على غير مظهر واحد. فقد كان يلبس كُمَّةً أحيانا فكأنما أراد أن يكون بسيطا في حضرة العظيم، وكان يلبس ما يلبس الناس في مناسبة عامة فكأنما أراد أن يكون جميلا في حضرة الجميل، وكان يلقي (مصره) على رأسه كما يفعل البحارة، فكأنما عرف أن (ذكر الله) بحر لا يخرج بكنوزه إلا البحارة الصابرون والغواصة المتقنون.

وكان الرجل يضيف إلى طقوسه تلك أنه -وهو يطوف- يتحسَّسُ بخطواته ويتفحَّصُ بنظراته؛ فإذا رأى في الأرفف مصحفا غير منتظم -في الترتيب مع أقرانه- نظمه بلطف، وإذا رأى شيئا من المخلفات الصغيرة في مساره انحنى يجمعها.

كان أحد (كائنات المسجد). أحب أن أسميه وأمثاله بهذا. هو أحد أؤلئك الذين يَتَفَنَّون في طقوسهم المسجدية، فلا يشبههم فيها أحد، أو لا يصبر عليها كما يصبرون. كائنات فريدة النوع، ربما انْتُبِه لها وربما لم ينتبه، لكن المؤكد أنها ستفتقد حين تغيب عن المسجد، كما يفتقد البدر في الليلة الظلماء.

#بر | 53


اجتهاد
- يمكنك أن تبدأ بقُبلة..
- مستحيل!
قطع عليه اقتراحه الذي لم يكمله:
- أنت تقترح المستحيل. لا أجرؤ على هذا. إنني أتهيّب الموقف الذي يجمعنا معا. أكاد لا أنبس ببنت شفة.
ثم استرسل يقول:
"لست أدري متى بدأ الأمر، ولا كيف تطور إلى هذا الحد. لم أشعر يوما بأنني في حضرة شخص قريب. العلاقة بيننا كالعلاقة بين مسؤول كبير وموظفيه الصغار الذين يتهيّبون الاقتراب منه. كل كلمة فيما بيننا موزونة بميزان دقيق، وينبغي أن أحسب لها ألف حساب".

تذكر هذا الحوار بعد سنوات من زواجه. تطاولت الأيام وافترق الزميلان، وكان لكل منهما في الحياة مشربه ومذهبه.
- ترى كيف يتصرف فلان الآن مع أبنائه؟!
سأل نفسه هذا السؤال، وهو يستعيد تفاصيل الحوار. كان صاحبه يحكي بألم بالغ عن علاقته بأبيه. وكان هو يقترح عليه أن يبدأ بتقبيل يديه كل يوم، حتى تكون بداية إصلاح العلاقة بينهما، وتخفيف حدَّةِ (الرسميّة) فيها.
كان وهو ينصحه يستحضر علاقته بأبيه، فلم يكن في الأمر شيء من الصعوبة -التي حكى عنها صاحبه- يوم قرر أن يَسْتَنَّ سُنَّةَ تقبيل يدي والديه صباح اليوم ومساءه.

والآن، وقد أصبح له من الأبناء ما شاء الله له أن يكون؛ يتذكر يوم أن حضر درسا لأحد المربين، فذكر قصيدة الشاعر عمر بهاء الأميري مشتاقا إلى أبنائه. غادروا البيت في رحلة مع أمهم وخلفوه وحيدا. قال فيها يصف أحوال أطفاله معه:
أين التسابق في مجاورتي/
شغفا إذا أكلوا وإن شربوا؟
يتزاحمون على مجالستي/
والقرب مني حيثما انقلبوا؟
يتوجهون بسوق فطرتهم/
نحوي إذا رهبوا وإن رغبوا
فنشيدهم: (بابا) إذا فرحوا /
ووعيدهم: (بابا) إذا غضبوا
وهتافهم: (بابا) إذا ابتعدوا/
ونجيهم: (بابا) إذا اقتربوا
يتذكر القصيدة، ويحمد الله أنه يجد في علاقته بأبنائه ما يشبه وصف الشاعر. ما زال يجتهد ألا تكون علاقته بأبنائه علاقة رسمية جافة كما كانت علاقة صاحبه بأبيه.

ويتذكر بعض ما سمعه من أدعية للمولود وأبيه، ومنها حين يقال: "وجعله الله لك صديقا سبعا" فكان كلما تذكر ذلك؛ اجتهد في أن يتصرف مع أبنائه على نحو ما يفعل الصديق مع صديقه.

ويتذكر ما يروى من أحاديث عن علاقة الرسول صلى الله عليه وسلم بحفيديه الحسن والحسين، ومنها أن أحدهما ركب على ظهره الشريف وهو ساجد، فأطال السجدة. فقال له الناس -عقب الصلاة-: "يا رسول الله لقد سجدت في صلاتك هذه سجدة ما كنت تسجدها، أَفَشَيْءٌ أمرت به؟ أو كان يوحى إليك؟ قال: كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته"، فكان كلما تذكر هذا؛ اجتهد في أن يتخفف مع أولاده وأخذ يلهو معهم ويلعب كأنه في مثل عمرهم.

يتذكر كل هذا؛ ويرجو أن يكون صاحبه مع أولاده كما يجتهد هو أن يكون.

#بر | 54


يتصدق
الآن، وقد أنهى برنامجه المعتاد؛ حانت لحظة الخروج إلى البيت.
في اللحظة التي كاد أن يغادر فيها المكان؛ دخلت، فلم يملك إلا أن يستدير راجعا!..
ترى ما الذي خطر بباله حين رآني؟ ماذا رأى مما لم أرَ؟ ما الأشياء التي كان يحسب لها؟..
مكث الرجل في المسجد ما شاء الله له أن يمكث: صلى الصلاة مع الجماعة، ثم أتى بالأذكار التي تعوَّدها، وقرأ وِرْدَه اليومي من القرآن. وحين حانت لحظة خروجه؛ دخلت أنا أبحث عمن لم يصلِّ بعدُ من الحاضرين، ثم عن قادم جديد محتمل؛ فلا يفوتني فضل الجماعة..
لاحظ تلفتي يمنة ويسرة، وحين رأى أنني لم أجد أحدا؛ قرر المبادرة.
-  أقم الصلاة.. سأصلي معك!
كأنما بعثه الله جبرا لخاطري الذي كسره التقصير، وكأنما رأى من فضل الجماعة ما لم أَرَ حين تأخرت، وكأنه كان يتلمس أجر الصدقة التي دعا إليها الرسول صلى الله عليه وسلم:
-  "من يتصدق على هذا، فيصلي معه؟"
-  أنا يا رسول الله..
كأنه كان يجيب الرسول إلى ما يدعوه إليه..
ولو رآه أحد الشكليين؛ فربما حسب -من مظهره- أن عددا ممن في المسجد كانوا أخلقَ منه بإجابة الدعوة النبوية.
أكبرتُ صبرَه، حين لم يستجب لأحوالٍ وشؤون تحثه ألا يتأخر كثيرا. وعَظُمَ عندي جوهرُه، حين لم يستجب للنفس الأمَّارة بسوء الظن في المندوبات..
قليلٌ أؤلئك الذين لم تستعجلهم الحياة المعاصرة إلى ما يحرمهم القرباتِ الصالحة، وكثير أؤلئك الذين تتفجر أنهار الخير والصلاح في بواطنهم من حيث يحسب الناس أن قلوبهم الحجارةُ أو أشدُّ قسوة!

#بر | 55


هي له!
على كثرة ما يغضب؛ فقد وجد نفسه هادئا هذه المرة!
من أين نزل عليه هذا الهدوء العجيب؛ وهو الذي لا يقبل -بأي حال من الأحوال- أن يُسْتَغْفلَ أو يُسْتَغْبى.

العامل في محل الملابس (مثلا)؛ كاد أن يُلصق وجهه في وجهه، حين حاول أن يغمط صديقه بضع ريالات. والعامل في محطة الوقود؛ ناداه كما يفعل المسؤول الكبير بموظف صغير يخترع الحيل ليتمرد على النظام، أو كما يفعل الأب المنتبه مع ولده المتفنن في إخفاء شقاواته الطفولية..
- تعال.. تعال.. تعال..
كان قد أرجع له (عشرة) ريالات، من (عشرين) دفعها، لوقود بـ (خمسة) ريالات فقط. حين ناداه تعثر في الكلام، وبدا له أن كان يقصد الاحتيال على الخمسة الباقية، ولكنه لم ينجح. هنالك لم يَنْسَ أن يؤدي إليه نصيبه من التأنيب واللوم الذي لم يَخْلُ –قطعا- من صوتٍ مرتفع بين حين وآخر، ونظراتٍ فيها من التهديد والوعيد ما سيجعل العامل يندب حظه التعيس الذي أوقعه في ورطة مع شخص كهذا لا يتنازل بسهولة..

كان لا يسكت في مواقف مثل هذه، ولكنه اليوم، لأمر ما؛ سكت وتجاوز عن سرقة العربة الجديدة التي اشتراها لأغراض المنزل. كان يضعها في مكان ما خارج البيت، ولم يتصور أبدا أن تمتد إليها يد غريبة.
-  مر رئيس عمال البناء في المنزل المجاور، وأخذها لعماله.
- ما شاء الله.. هكذا؛ دون استئذان!
في مواقف أخرى كان سيرد بهذا الرد، وهو يأتي بعلامات الاستهجان والاستنكار: يَزُمُّ شفتيه ويفتح عينيه عن آخرهما ويقلب وجهه؛ وربما كان سيتحرك من فوره إلى مكان هذا العامل. لكنه آثر أن يرد قائلا: (سبحان الله!). وكان، وهو يُدَوِّن رقم الهاتف الذي جاء به عامل آخر شهد الحادثة؛ يُسِرَّ في نفسه: إن أرجعها فبها ونعمت، وإلا فهي له!
من أين نزل عليه هذا الهدوء؟

تأمل أحوال العمال من حوله، فرآى أنها صعبة تترتب عليها حوائج كثيرة. وتفكر قليلا فرأى أن ما سُلِب منه وثيق الصلة بالضرورة أكثر من الترف.
وربما تذكر المجاعة التي حدثت في عهد عمر بن الخطاب، فألجأت بعض الناس إلى السرقة، فما كان من الخليفة الراشد –رضي الله عنه- إلا أن أسقط عنهم الحد..

أفلا يسكت هو عن القليل لمحتاج، ولعله ينال بهذا الكثير عند الله!

#بر | 56


نور في الظلمات
اختنقت الكلمات في فمه، وترقرقت الدموع في عينيه.
كان يظن أنه أقوى في مثل هذه اللحظات. رأى رفاقه الذين سبقوه إلى مغادرة المكان ألواناً مختلفة من مظاهر الحزن؛ بين التجلد في مقاومة اللحظة المؤثرة، والسماح لها أن تستفرغ قواها فيهم.
كان على يقين من أنه سيبتسم، ولن تسيل دموعه مثل من بكى، وأنه سنطق بالكلمات المعتادة: (سنلتقي العام القادم بإذن الله)، (سنبقى على تواصل)، (كانت أياما رائعة، إلى اللقاء)؛ سيقولها واضحةً كما يقولها في أي لحظة عادية.. لكن ذلك كله تبخر. غلبته اللحظة التي ظن أنها لن تأتي على شيء منه!

- "أهكذا تمضي الأيام الجميلة. أكاد لا أصدق أنني قضيت شهرين كاملين!.. لقد مرا كيومين سريعين. هل يعقل أن يغادر الإنسان مكانا كهذا؟"..
كذلك كانت أحاديث نفسه، وهو يركب السيارة عائدا إلى قريته البعيدة. كان يشعر أنه ولد من جديد، وأن النور يفيض منه.

- لا زيارات، لا اتصالات، لا إجازات!
تذكر هذا القانون الذي عرفه خلال المقابلة الأولى مع الشيخ. ترى ما الذي أصبره على هذا، وهو الذي كان ينفر من القيود؟.. ما الذي أصبر أهله عنه وهو الذي لم يغب عن البيت أكثر من ليلتين، يقضيهما عند أخواله؟!
كانت تجربة جديدة عليه وعلى أهله، ولكن أثرها سيطبع كثيرا من معالم حياته فيما بعد.

- في (سْناو)!
- ماذا تفعل هناك؟
- سأدرس في مركز الشيخ حمود الصوافي.
تذكر هذا الحوار الذي دار بينه وبين صديقه. كان يسأله عن المكان الذي سينفق فيه إجازته.
تلك كانت المرة الأولى التي يسمع فيها عن هذا المركز. لم تكن المراكز الصيفية غريبة عليه، فقد كان يلتحق بأقربها إليه في القرية، وكان كل الطلاب فيه من الأهل والجيران. لم يخطر بباله أن ثمة مراكز جامعة، يؤمها الطلاب من كل حدب وصوب.

- ما رأيك أن أصحبك؟.. هل من إشكال؟
لم ينتظر حتى يستشير أبويه، أو حتى أستاذه الذي أصبح وثيق الصلة به في المدرسة وخارجها. كان لا يريد تفويت الفرصة. وأكثر الظن أنه كان لا يريد لصديقه أن يتفرّد بشيء من المعارف دونه، فيُحْدِث ذلك فوارق علمية حاسمة بينهما. كان صديقه هذا منافسه العنيد على المركز الأول طوال فترة دراستهما الابتدائية والإعدادية تقريبا..

- لو أنني قضيت هذه الأيام مع أترابي، نلعب الكرة، ونذهب إلى المطعم الصغير في القرية، ونسترق بعض اللحظات لمشاهدة (فولترون) في التلفزيون.. ما الذي جاء بي إلى هنا؟ أي فكرة غبية كانت؟!!
وصل (سناو) ليلا. انطفأت المصابيح فجأة، وخيَّم الظلام على المكان. ما أثقل الأماكن المظلمة، لا سيما على الغريب!
كانت المفارقة أنه جاء من أجل النور، فإذا به يقع فريسة للظلام. بداية سيئة أوحت له بحديث النفس ذاك.

وحين مرت الأيام، اليوم بعد الآخر؛ كان النور يسطع شيئا فشيئا في جوانحه. أحب المكان وارتاح إليه، وأحس بالامتنان لهذا الشيخ الصالح الذي كان أباً له ولأقرانه، بل كان الأهلَ والعشيرةَ لهم جميعا. كان ممتنا أيضا لصديقه الذي قَرَّب إليه هذا الخير بصدر رحب.

قبيل وصوله إلى القرية، مُحَمَّلا بأشواقه الحارة لأمه وأبيه وإخوته، ولأهله وقريته؛ كانت الطريق تبدو له غير الطريق، والمعالم غير المعالم. نزل مع رفاقه للصلاة في مسجد على الطريق. تلك كانت أول صلواتهم بعيدا عن مركز الشيخ. لطالما صلى في هذا المسجد، ولكن صلاته اليوم فيه غير الصلوات من قبل. كأنها الصلاة الأولى له في هذا المكان، أو كأنها الصلاة الأولى في حياته كلها. وكان يستحضر اللحظتين: لحظة البداية حيث استقبلهم الظلام، ولحظة النهاية حيث ودَّعهم الشيخ. هنالك أيقن أن الأشياء ليست كما تبدو أول مرة، وأنه كما يمكن أن ينبعث النور من الظلام فإنه يمكن للمنحة أن تتلبس ثوب المحنة؛ وليس يُلقَّى الخير من كل هذا إلا ذو حظ عظيم من الحكمة والبصيرة النافذة.

#بر | 57


إنصاف
لو أنه استجاب لحس الدعابة الذي يتمتع به الآن أكثر من أي وقت مضى؛ لقال في وصف ذلك اليوم: إنه اليوم العالمي للعُبوس.. وربما لم يجد في نفسه ما وجده من الغيظ يومها؛ فلا تثريب على العابسين في يومهم المجيد!

كان ذلك في صباح أحد الأيام، حين قصد إحدى مؤسسات الخدمة الحكومية لإنجاز موضوع ما. غريب هو على المكان، ولم يسعفه البحث السريع في تحديد المكتب المعني بإتمام الإجراء المقصود، فدخل أول مكتب قابله.

فوجئ بالموظف على غير ما كان يأمل!
- ما باله عابسَ الوجه، كأن من دخل عليه أحد المتسولين؟!..
تساءل في سره، حين لم يَلْقَ من الموظف أي اهتمام؛ لا وجها بشوشا، ولا خدمةً ناجزة، ولا إرشادا إلى المكتب الصحيح، وزاد على هذا أنه صرفه بطريقة غير مهذبة، أو ليست –على الأقل- في المستوى الذي كان يرجوه.

جَرّ نفسه مغتاظا، وانتقل إلى مكتب مجاور. أوحى له اسم الموظف المكتوب على لافتة الباب بأنه سيلقى وجها باشا هذه المرة، فينهي مهمته بنجاح. لكنه فوجئ به يستقبله كما استقبله الأول: وجه عابس وجبين مقطب..
- لا حول ولا قوة إلا بالله!
أسرَّها في نفسه، ثم أفلت منه تعجبه من هذا اليوم العابس العجيب وهو يتساءل بصوت مسموع، كأنما يتحدث لنفسه:
- لِمَ كلُّ موظفي هذه الدائرة عابسون؟.. ما الذي يحدث بالضبط؟!!

ثارت ثائرة الموظف عليه، وزاد إلى عبوسه كلام ثقيل غليظ. أما هو فلم يكن بحاجة لسبب يحرك فيه مشاعر الغيظ والغضب، فقد كان في تلك اللحظة "شرجة ولاقية مهباط" كما في المثل الشعبي؛ وبدلا من كظم الغيظ -في مواجهة هذا الموج الهادر الذي امتد فجأة- انطلق يرد على خصمه بما حضر من الألفاظ، حتى إذا ما اشتد التلاسن بينهما، طرده الموظف قبل أن ينجز مهمته التي جاء من أجلها..!!
ولو سأله سائل حينها عن تقييمه للموظف، لكان أسبق صفة إلى لسانه (فاسد)، وربما صب عليه كثيرا من فاحش الصفات وسيئها..

مرت الأيام ودارت دوائرها، وتبدلت بصاحبنا الأماكن والظروف؛ فكان أن وجد نفسه -بعد سبعة عشر عاما- هو والموظف زميلين في مكان العمل نفسه. كان في دائرة منفصلة وبعيدة عن الدائرة التي يعمل فيه خصمه، وكان قد نسي الموقف تماما.

- سعيد بحضوركم، وأود أن أعرفكم بنفسي في البداية..
كان صاحبنا أحد الحضور في برنامج تدريبي يقدمه الموظف المذكور لموظفي المؤسسة. حين عرَّف باسمه تذكر صاحبنا كل شيء، كأن الحدث لم تمض عليه غير أيام قلائل. وخلال أيام البرنامج كان يبحث عن الوجه العابس وعن الروح المتنمرة لكنه لم يجد أثرا لهذا كله، بل وجد النقيض من هذا تماما: وجها ودوداً، وابتسامة صادقة، وروحا صبورة معطاءة تجتهد في مساعدة المتدربين وتعمل بجد وإخلاص..

لم يملك وهو يقارن بين الصورتين المتناقضتين للموظف (القديمة والحديثة) إلا أن يتساءل بينه وبين نفسه:
هل يعقل أن يكون هذا هو الشخص نفسه؟ ماذا لو كنت أنا المخطئ في الموقف القديم؟ ربما كان في اللحظة التي دخلت فيها مكتبه مشغولا بشيء أو مهموما بفكرة ما، وربما كان دخولي أهوج ينقصه الذوق والتهذيب. كان عليّ ألا أحكم عليه من موقف واحد سريع..

ومضى يحاسب نفسه على هذا النحو، حتى أفضى به الأمر إلى أن يجد في نفسه من العلائق الودودة بينه وبين هذا الموظف، ما لو انتبه إليه في الموقف القديم لجعله في سلك أصدقائه المقربين..

لو أن الإنسان أنصف من نفسه في كل شأن من شؤونه بين الناس، لكان خليقا بأن يرى أبعد من اللحظة العاصفة، وأن يسمع غير صوت نفسه الأمارة بالسوء، وأن يتكلم بما يلف قلوب الناس عليه -بمختلف أطيافهم- فيتمتع بالجنة وهو لم يزل بعدُ مقيما في الدنيا!

#بر | 58


وداع
وَدَّعَ الصبرَ مُحِبٌّ وَدَّعَكْ
ذائعٌ مِن سِرِّهِ ما اسْتَوْدَعَكْ
يقرع السِّنَّ على أَن لم يكن
زادَ في تلك الخُطى إذ شَيَّعَكْ
يا أَخا البدرِ سناءً وسنىً
حفظ اللَه زماناً أطلَعك
إن يَطُلْ بَعْدَكَ ليلي فَلَكَمْ
بِتُّ أشكو قِصَرَ الليلِ مَعَكْ

كذلك كان لسان حاله، وهنالك فاضت دموعه غزيرة وهو يُشيِّع حبيبه.. كان يتذكر كيف أن الدنيا تغيَّرت حين أقبل، وكيف أن الخلق بعثوا خلقا آخر حين حضر؛ فبكاه حين غادر كما يبكي الصبي أباه الذي ذهب بعيدا عنه!..
دموعه تسيل على خديه، والكلام يقطعه النشيج الصادق.

والآن؛ وقد باعد الزمان بينه وبين حبيبه، وأصبح في حال غير أحواله فيما مضى من الأيام، فوجئ بصوت غريب:
- آن لك أن تستريح!
لو أنها قيلت لغيره؛ فربما وجد فيها تَعِلَّةً ليتفلَّت من التزامٍ، وليهنأ بعد مسيرة حافلة ونضال شريف. لكنه أحس بها قاسيةً كطعنة، وعنيفةً كريح صرصر..
وأظنه في اللحظة التي لم يبلغ فيها الجواب لسانه؛ كان الكلام يتمشى في صدره كما يتمشى الدواء الذي يتجرعه المريض ولا يكاد يسيغه:
"أستريح من ماذا؟ أكانت عبئا ثقيلا حتى أستريح منها؟ أفيستريح الإنسان من مأمنِه ومُطْمَأَنِّه؟"..

كان الرجل يأتي الصلاة وهو ينوء بأحمال المرض الخبيث الذي بدأ يتغلغل شيئا فشيئا في جسمه. عامان؛ والناس مشفقون عليه، ينصحونه أن يلزم البيت فلا يتكلف ما لا يطيق. كانوا يعلمون تعلقه بالمسجد والصلاة فيه؛ ولكن ما الحيلة وهم يرون جسمه الضعيف يكاد يتهاوى بين لحظة وأخرى.

- لو أنك صليت في البيت؛ فإني أرجو أن يكون ذلك أسلم لك..
وصى أبناء الشيخ الكبير جاره الشاب ليقنعه، بعد أن أعيتهم الحيلة في ذلك. كانوا يعلمون أن أباهم الشيخ يُنزل الشاب من نفسه منزلة كريمة، فظنوا أنه سينجح فيما عجزوا هم عنه..
قال له الشاب ما قال، وهو يعلم سلفا كيف سيكون جوابه؛ فقد عهده محافظا على الصلاة في المسجد، يُفيض إيمانُ العجائز على وجهه النور وعلى كلامه الصدق والإخلاص؛ فليس أشدَّ على من كان هذا حاله من أن يقال له ولأمثاله: لا تقربوا الصلاة في المسجد..

- ستون عاما قضيتها صحيحا معافى، أقطع الأرض طولا وعرضا، أفلا أشكر الله عليها بسنتين في احتمال المرض!.. سنتان فقط يا بني، وأول ما أتخلى عنه الصلاة في المسجد؛ كيف يستقيم هذا؟!
ما يزال الشاب يتذكر جواب الشيخ السبعيني، الذي أبى أن يتخلف عن مسجده، وما يزال يتذكر بكاءه حين وَدَّعَ رمضان. ولئن كان لسان حاله في وداع رمضان ما قاله ابن زيدون؛ فإن لسان حاله وهو يودع المسجد ما قاله ابن زريق البغدادي:
وَدَّعتُه..وبِوُدِّي لو يُوَدِّعُني
صفوُ الحياةِ وأني لا أُوَدِّعُه!

ما يزال يتذكره، ولقد رأيته -غير مرة- كلما ذكره تفيض من الدمع عيناه مما عرف من حقيقة الرجل الطاهر -رحمه الله-!

#بر | 59


كيف يحيا العيد؟!

- عشان شاي.. عشان شاي!
كان يردد عبارته تلك مبتسما، وهو يضع في أيديهم الورقة أو الورقتين من فئة المائة بيسة. لم يكن يفرق فيما يعطيه لهذا أو لذاك. الفرحة عامة وينبغي أن تشمل الجميع.

وكانوا يبتسمون ابتسامة صافية يتدفق الرضا من جوانبها كلها. لاحظ هذا مرارا، ولكنه كان على يقين من أن رضا اللحظة هذه، تتوارى خلفه غُصَصٌ كبار هنا وهناك. وليس يدري، في لحظاتهم الخالية؛ كيف تتقلب مشاعرهم وتختلف بحسب ما يُقْبل به العيد -أو غيره من مواسم الحياة- على أهلهم وذويهم في بلدانهم تلك..

-  خليقٌ بعيد المسلمين أن يكون مصدر فرحة لجميع الناس. أليس الإسلام خيرا على البشرية جمعاء، ورسولُه رحمةً للعالمين؟
حدثته نفسه بهذا، وهو يتأمل العمال الآسيويين –حين يتلقفونه قبالة مصلى العيد، أو يتلقفهم هو في بعض الدروب-، وقرر أن هذه العيدية البسيطة التي يقدمها دون تمييز بين المسلم منهم وغيره؛ مَصْرِفٌ خَيِّر لبعض نواياه الحسنة تجاههم، يرجو أن يكون لها فيهم أثر طيب مبارك.

لطالما تفكر في الفرحة الظاهرة التي يراها في وجوه العمال غير المسلمين بعيدٍ يحتفل به المسلمون، ولسانِ حالهم الذي ينطق بالتهنئة الصادقة:
- ألأن أيامه إجازة مستحقة من العمل؟..
ولكن يوم الإجازة عندهم غير مدفوع القيمة، يخسرون فيه ما يمكن أن يكسبوه في اليوم الواحد من أيام العمل..!!
- أم لأنهم يحبون الفرح فحسب؟..
يومٌ يرون فيه الناس غير الناس في غيره من الأيام، يخرجون من قلب الفجر وهم ينثرون في الدرب الابتسامات والتحايا، وعليهم من الثياب الجديدُ المعطر. الكل سعيد فرحان؛ فعلامَ يتولون هم عن كل هذا إلى عزلة لا تعود عليهم بخير منه؟!..

وحيث إن (العيد) يفعل فعله هذا في هؤلاء، ضمن مشهد صغير من مشاهده؛ فمن باب أولى أنه –بما جعله الله عليه- مسكونٌ بإمكانيات الفعل العظيم في مشاهده الأخرى أيضا. العيد فرصة حقيقية للدفع بالنوايا الخَيِّرَةِ المؤجلة إلى أرض الواقع. تلك النوايا الطيبات التي تشغل الإنسانَ عنها، أو تصرفه؛ مطالبُ الحياة وشؤونها.

ومضى -من بعدُ- يتأمل في عنوانات كثيرة يمكن لأصحاب النوايا المؤجلة أن يستحضروا فيها نواياهم البَرَّة: أليس في الزيارات صلة للرحم؟ أليس في العيديات تُدْفَع للقريبات -من النساء غير العاملات- إحسان لفقراءَ محتملين؟ أليس في الهيئة الجميلة والقول الحسن دعوةٌ صامتة ومتكلمة لدينِ الله وقيمِ الإنسانية النبيلة؟..

وتأمل في تعبير الناس الصادق عن الفرح؛ أليس يرى فيه (غير المسلم) و(غير المتدين) وجهَ الدين الباعث على السعادة، وأنه ما جاء إلا رحمة وخيرا للإنسانية، وأن خطأ بعض أفراده مردود عليهم وحدهم؛ فليس من الإسلام ولا من التدين الحق أن يعبس الإنسان في وجه كل من يلقاه بدعوى الوقار، أو أن يَتَقَصَّدَ أشدَّ ما قال به الفقهاء بدعوى الورع، أو أن يعتزل الناس في مناسباتهم بدعوى أن خلطتهم لا تعود عليه بخير في دينه.. إن في العيد -وفي غيره من محافل اجتماع الناس- فرصة ذهبية للتعبير عن جمال الدين الخاتم..

العيد فرصة ذهبية لا تُفَوَّتُ، لأنها –ربما- لا تُعَوَّض!
فالمشغولون يتفرغون، والمتجهمون يبتسمون، والقاطعون يصلون، والساكتون يتكلمون، والمتبعثرون يجتمعون. كل سلبي من الأحوال والمظاهر يتبدل إلى نقيضه الإيجابي؛ وبذلك يحيا العيد!

#بر | 60