الخميس، 16 يناير 2020

يوميات عابرة | (31 - 40)


 (31)
في سمائل بلدتان: (وْبَال)، و(وْصاد)؛ من طريف ما سمعته عنهما قولة رجل من السادة كان يريد العبور من إحداهما إلى بعض غايته؛ فقال له من كان معه: إننا سنسلك طريق (وْبَال)، فأبى، معللا ذلك بأنه إن مَرَّ بها، فليس خليقا به أن يقال عنه: (مرّْ وبال)، وآثر أن يسلك طريق (وْصاد)، فإن قيل: (مرّْ وْصَاد)؛ كان ذلك أليق به!

والمقصود من هذا هو ما يحدثه الفرق بين القولين: (مَرَّ وَبَالَ)، و(مَرَّ وَصَادَ) من معنى عميق؛ فشتان بين من يسلك طريقا، فيكون أثره فيه هو ما يقضيه من حاجة (البول) فحسب، ومن يسلكه فيصيب منه حَظّاً من (الصيد)!
وظاهرٌ أن المفارقة أتت من كون (الواو) جزءاً من مسمى البلدتين، فيما هي حرف عطف في العبارتين.



(32)
مما سمعته في حديث بعضهم؛ أنه قيل لامرأة، بعد أيام من زواجها: كيف وجدت الزواج؟ فقالت: كل ساعة حُب.. حُب! وتعني: أن زوجها كثير التقبيل لها، وربما يفعل ذلك في أوقات مختلفة، بمناسبة أو بدونها، وأنها لم تحسب حسابا لهذا، بسببٍ من عدم تصورها الكامل لما يكون بين الزوجين، أو ما قد يكون من سلوك بعض الرجال أول أيام زواجهم!!
وما يهمنا من هذا كله؛ هو استخدام كلمة (حُب) في معنى (التقبيل)، فإنه شائع في لهجة بعض أهل الشمال من عمان أو كلهم. فإذا قال الأب لابنه مثلا: (تعال أحبك)؛ فإنه يعني (تعال أقَبِّلك).



(33)
يروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر على قرية يقال لها: عَفْرَة فسماها خضِرَة، وكره اسم (يثرب) فغيره إلى (المدينة)، و(طيبة)؛ وسبب هذه الكراهة -فيما ذكره العلماء- أن كلمة (يثرب) إما أن يكون أصلها من (التَّثْريب) الذي هو التوبيخ والملامة، أو من (الثَّرْب) وهو الفساد، وكلاهما مستقبح.

ولقد غُيِّر في بلدنا عمان اسم بلدة (وْبَال) الذي يحيل على معنى (الوَبَال/ الهلاك) إلى اسم ذي معنى جميل قريب من مسماها السابق، فأصبحت (مَنَال). وكان هذا -فيما سمعت- بتوجيهات من جلالة السلطان، وهي سنة حميدة استنها جلالته، اقتداء بالسنة النبوية الشريفة المتقدم ذكرها.

ومن البلدان التي وجَّه جلالته بتغيير أسمائها: (ظالَّة) في ولاية الخابورة، وأصل تسميتها من (الظِل)، ولكن هذا الاسم -في اللهجة الدارجة- قد يحيل على أصل آخر هو (الضلال)، نظرا لقلب كل ضاد في الفصحى إلى ظاء في اللهجة، فغُيَّرَتْ إلى اسم لا يحيل إلا على الظل وحده وهو (ظليلة)؛ و(المَيْسَر) في ولاية المضيبي التي قد يشتبه اسمها بـ (المَيْسِر)، غيرت إلى (المُيَسَّر)؛ و(المسخوطة) في ولاية بهلا إلى (المعمورة)؛ و(حلة الجوع) أصبحت (حلة الجود)، و(المحترق) أصبحت (المعتمر) وهما بلدتان في السويق. وكذلك غيرت (الحمة) في ولاية سمائل إلى (العافية)، مع أن بعض كبار السن يقولون إن أصل تسميتها من حَمّة الجبال المحيطة بها، نظرا لما تبعثه الجبال من حرارة في المنطقة، ولكن منطوق الناس لها جعلها تبدو وكأنها استلت من كلمة (الحمى)!

و(الملعب) و(الفاسقة) في صحار غيرتا إلى (الملتقى) و(العفيفة) على التوالي. وفي مسمى (الفاسقة) نكتة لطيفة، فقد قال بعضهم إن أصل التسمية شريف، إذ أصله (ألف ساقية)، نظرا -فيما يبدو- لما اشتهرت به من كثرة السواقي، أو عظم كمية الماء المتدفق فيها؛ ثم دمجت الكلمتان وحرفتا بمرور الزمن حتى صارت إلى هذا الاسم المستقبح.. 
وقد ذكر لي بعض الإخوة أن في المضيبي أيضا منطقة تسمى الفاسقة، ولكنها مهجورة؛ فمن ثم لا تذكر، بله أن يلتفت لتغيير اسمها. والعجيب أن أصل التسمية هو نفسه تقريبا أصل تسمية الفاسقة في صحار، فقد ذكر أن أصلها (ألفي سقا) زمن الحروب فتغيرت في ألسن الناس حتى صارت (الفاسقة) ..

ومما وجدته في هذا الباب أيضا: أن (العقرب) في الظاهرة، غيرت إلى (أرحب)، و(المتهدمات) في مسقط إلى (العامرات)، و(شيخول) في ظفار إلى (مدينة الحق)، و(نكح) تغيرت إلى (نفس)، و(قميلة) في جعلان بني بو علي إلى (أصيلة)، و(مخرمة) في صور إلى (نعمة) و(سيح النار) في إبراء إلى (سيح العافية)، و(القبرين) في المضيبي إلى (الباهية)، وغيرها كثير فيما أحسب..



(34)
يخطئ بعض الناس في قراءة بعض الكلمات وفهمها، وربما أفضى بهم خطأهم إلى استعمال الكلمة محرفة عن الأصل أو منقولة إلى غير ما وضعت له. ومن هذا مثلا؛ تسمية بعض الآباء للولد (نكتل) أخذا من قوله تعالى ﴿قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون﴾، مع أن الكلمة فعل مضارع مجزوم، وأصله (نكتال) من (الكيل)؛ وكذلك تسمية البنت (قُصِّيه) أخذا من قوله تعالى ﴿وقالت لأختِه قُصِّيهِ فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون﴾، ظنا منهم أن (قصيه) هو اسم الأخت، فيما هو فعل أمر من (قص) في تقصي الأثر.
ومن هذا أيضا؛ تسمية  الأولاد بـ (طه) و(ياسين) المأخوذتين -فيما يبدو- من الحروف المقطعة في سورتي (طه)  و(يس)..
وإلى هذا كله؛ فقد سمعت أيضا أن اسم (المر) المستعمل في تسمية الناس عندنا في عمان؛ إنما أخذ كما أخذت أسماء (طه) و(يس) و(حاميم)، وإن كان له معنى في ذاته بخلاف الاسماء المذكورة، والله أعلم.



(35)
من أسماء التدليل، التي كنا نسمعها كثيرا، إبَّان طفولتنا -وربما لا تزال- أن يدلل (سعيد) بـ (سعدون)، و(عبدالله) بـ (عبدون)، و(حسن) بـ (حسون)، و(فهد) بـ (فهدون)، وهكذا..

كانت هذه الأسماء مقترنة لدينا بالصغر، فلم يعهد أن (سعدونا) -مثلا- كبر بهذا الاسم، بل كانت مناداة كل (سعيد) به تتوقف تلقائيا بوصوله سن البلوغ أو بُعَيْده بقليل..

ومن طريف ما أذكره؛ أن أحد أهلنا كان مؤيدا لصدام حسين بشدة، وكان يتابع بشغف أحداث حرب الخليج الأولى، ويحكي ما شاهده لأهل المسجد بعيد انتهائهم من صلاة المغرب، ويفسر، ويستنتج؛ يفعل ذلك كما لا يفعل -ربما- محللو القنوات الإخبارية وكتاب الصحافة اليوم.

وكان ممن تتردد أسماؤهم آنذاك، من رموز النظام العراقي؛ (سعدون حمادي)، فكان اسمه هذا دليلا عنده على تواضعه!!..

كان الرجل يقول بثقة وحسم: هؤلاء شرفاء أصحاب مبادئ.. وانظروا إلى هذا، لم يقل: (نادوني بسعيد، لأنني كبرت أو لأنني استوزرت)، وإنما أبقى على اسمه الأول!!

وربما لم يفطن هو، ولا الجماعة الحاضرون، وأنا معهم؛ إلى أن هذا هو اسم الرجل، بما هو سائغ في بيئته، وليس تصغيرا له وتدليلا، كما هو عندنا..

والذي أريد قوله بعد هذا كله؛ بأنني وقعت على مفارقة بين ما هو شائع عندنا، وما يشيع في بيئات اجتماعية أخرى كما رأينا. فقد وجدت وأنا أتصفح إحدى طبعات كتاب (مقدمة ابن خلدون)، في مقدمة محققه نواف الجراح أن أهل الأندلس كانوا إذا أرادوا تعظيم العالم يضيفون إلى اسمه واوا ونونا، مثل خالد: خلدون، حمد: حمدون!

المفارقة إذن؛ أننا بينما نستخدمه للتصغير، يعده آخرون دلالة على التعظيم!
*
هامش: ذكر د.سعيد الريامي تعليقا على التدوينة أعلاه: قرأت في مكان ما أن إضافة الواو والنون على الأسماء في الأندلس (ابن زيدون مثلًا) كان للتدليل على أصولهم العربية المختلطة بالأسبان.



(36)
‏كانت في قريتنا امرأة عجوز، تتكلم بلهجة عجيبة جميلة، تختلف عما كنت أعهده من طرائق نطق الكلام. حين سألت أهلي، وأنا فتى صغير، عن سر اختلاف كلامها عن كلامنا وكلام أولادها أيضا؛ قيل لي إنها من إبراء. تلك كانت المرة الأولى التي سمعت فيها بهذه المدينة العمانية.



(37)
‏أول ما انتبهت إليه من اختلاف لهجة أهل إبراء، عن لهجتنا:
- تسكين أوائل بعض الكلمات التي نفتحها نحن كقولهم: ثْلاثة.
- وإبدال الياء من الجيم في بعض كلماتهم، أو كلها (لست متأكدا)؛ فينطقون الجمعة مثلا: (اليمعة).
- وقولهم: مِنْتى؟ بتاء مفخمة، ويعنون بها (متى)؟
- وقولهم مستفهمين عن الشيء: (هيش أذا)؟، أو (هو ذا)؟؛ لِما نستفهم عن نحن بـ (إيش ذا) أو (مو ذا).
- وقولهم (شاور) يريدون بها (خارج).


(38)
ترتبط إبراء في ذهني بشخصين (أكثر من غيرهما) عرفتهما في مدرسة الشيخ حمود الصوافي -حفظه الله-؛ الشيخين: عبدالله المعمري، وعبدالله العيسري.
وكنت أقول، وما زلت: يا لحظ إبراء بعبدليها!



(39)
في محاضرة (أزمة الوعي في العالم العربي) التي نظمها النادي الثقافي للمفكر والكاتب المصري فهمي هويدي بتاريخ (١٢ نوفمبر ٢٠١٩م)؛ سأل أحد الحضور: كيف تم اختطاف الوعي الجمعي المصري؟ وما آليات استعادته؟

ويبدو أن الكاتب المصري، وهو الذي لم يزل مقيما في مصر على رغم مخالفته لتوجهات حكام مصر الجدد وانتقاده الذكي المهادن للأوضاع فيها كما كان أيام حكم الرئيس السابق (مبارك)؛ يبدو أنه أراد أن يرجع إلى مصر دون أن يجر على نفسه تبعات من المساءلة أو التضييق، ولكنه -في الوقت نفسه- لم يشأ أن يتنكر لتاريخه الفكري وما عهده الناس منه من كونه صوتا لعامة الناس.. فكيف يصنع مع هذا السؤال المحرج؟!

صمت فهمي هويدي قليلا، وقلب نظره في الحضور، ثم اختار أن يقول: أستطيع أن أتحدث كثيرا في الشأن المصري، ولكن بيني وبينك!
وابتسم مشيرا إلى أن هذا جوابه على المداخلة!!

لا شك أن الجواب بهذه الصيغة يقول الكثير، وهو جواب حكيم وفق إليه وتخلص به من حرج كبير.



(40)
لعبدالله الطائي (في حدود ما اطلعت عليه من كتابه: تاريخ عمان السياسي) إشارة عابرة جميلة حول لقب (الإمام)، ومفادها -في العمق- أن الحاكم ونظام الحكم في دولة الإمامة يساويان غيرهما من نظم الحكم الديمقراطية، وهو ما يعني في المحصلة أنهما غير مرتبطين بزمان ومكان، وأنهما صالحان للديمومة وقابلان للتطور بما يحقق مصلحة الشعب ويحفظ مصالح الدولة.