الأحد، 13 سبتمبر 2020

مشارق | (9)

 

(81)

ثمة صوت جميل يتسرب إلى روحك بين الحين والآخر. ينتشلك من حاضرك المتعب/ المرتبك/ المختلط إلى ماضٍ جميل، أو يطير بك إلى مستقبل يملأه الخيال بما تحب وتشتهي..

كنت تحسبه بعيد المصدر، أليس كذلك؟

كنت ترفع رأسك متطلعا تبحث عنه.. فاعلم إذن أنه كان أقرب إليك مما تتصور. لقد كان بين يديك، يقول لك، مُعْرِبا غير مُعْجم: أنا هنا!..

كان بين أذنيك، ولكن أَصَمَّتْك عنه أو استغفلتْك فكرة نَزِقة تجعل البعيد في مرتبة أعلى من القريب، وتستوفي له المعروف الذي كان أولى به الأقربون!

فارجع السمع كرتين، يرحمك الله..

 

(82)

لا تنطبق المعادلات الرياضية ولا المسائل المنطقية على كل ما يأتيه الناس ويذرون من شؤون حياتهم، فليس يصح -أغلب الأحيان، إن لم يكن دائما- ما تؤدي إليه تلك النُّظم العقلية الصارمة.

ثمة نظام مختلف في الاجتماع البشري، لا تسير فيه المعطيات والنتائج على وفق تلك النظم، فليست تؤدي للنتائج نفسها (دائما)؛ المدخلاتُ المتماثلة في الظاهر.

إننا نكون أدنى إلى (الإنسانية الطبيعية) كلما وسعنا قبول الآراء المتعددة فيما يسعه الخلاف، وأغضينا عن خطأ لا يقدم إصلاحه ولا يؤخر، وأصبرنا أنفسنا عن العجلة في تنبيه من يخطئ الخطأ اللازم الإصلاح إلى حالٍ أرجى أن يقبل فيه النصيحة والتعليم..

وعكس ما تقدم صحيح؛ فحذار من (إنسانية آلية) لا تستجيب إلا لصرامة القوانين الرياضية، ولم يقدر بعد صانعوها على ما طُبع عليه الإنسان من المرونة الحيوية وإمكانية التقدير لنسبية المواقف والأحوال.

 

(83)

في الطريق إلى هدفك المشروع؛ تذكر أنك لست الهدف الذي تسعى من أجله. أنت شيء، وهدفك شيء آخر/ كينونتان مختلفتان تماما. معادلة ستحميك حين الإخفاق -لا قدر الله-..

 

وإذن؛ فكن طموحا، وتوكل على الله. خطط، ونفذ، وتلمس أسباب النجاح؛ فإن حالفك التوفيق فقد نلت ما تريد، وإن كانت الأخرى فقد ربحت خبرة لا يستهان بها.. ورَبُّ التجربة والخبرة لا يُلْدغ من جُحر مرتين!

 

(84)

يختلف الناس في معالجة ما تتلقاه آذانهم.

- يختلفون في تقييمه: أَكِتْمانه أولى، أم إذاعته؟

فإن كانت الأولى: أهو شيء ينفع، أم أنه زائد على الحاجة؟

- ويختلفون في نقله، إن كانت الثانية: لمن، ومتى، وكيف؟ فليس يوفق إلى الإحسان فيها كل الناس..

فعليك، والحال هذه؛ أن تنتبه كثيرا لما ينطق به لسانك؛ فلست تأمن بعد أن ينقل عنك ما لم تقله، أو أن يُنْتَبَهَ كثيرا لما تعده من الحواشي بينما يعده الناس من المتون.. فلله في خلقه شؤون!

 

(85)

"في كل إنسانٍ تعرفه؛ إنسانٌ آخر لا تعرفه".

يخرج هذا الإنسان المجهول بالنسبة إليك، ضمن ظروف وأحوال مختلفات.

وفي التفاصيل، قبل لقائك به بقليل أو كثير؛ ثمة أشياء كانت تمور داخل نفسه أو تثور خارجها، بعضها جديد وبعضها مرت عليه الأيام ولكن طرأ ما يذكر به.. أشياء تغير مزاجه إلى حسن أو إلى سيئ، تهز كيانه بعنف فتخرجه خلقا آخر، أو تهزه بلطف فيبدو شيءٌ ما فيه على غير العادة..

هنالك، في لحظة اللقاء المفاجئة أو حتى بعدها بقليل أو كثير؛ قد تغفل فتعجب كيف يتغير الإنسان فجأة، وقد تنتبه فتعرف أننا كلنا هذا الإنسان!

 

(86)

تسندك (الفكرة)؛

لتخطو الخطوة الأولى في وسط ساكن، أو تبصر ما لم يره غيرك أو أبعد مما يرون، أو تتكلم بلغة جديدة غير معهودة يسمعها الناس كلهم/ لا فرق بين ذي سمع وذي صمم..

الفكرة يد وعين ولسان.

الفكرة شيء محسوس وإن بدت مجردة،

وهي (كَمٌّ) بقدر ما هي (كيف).. الفكرة عَالمٌ وأيُّ عالَم!

 

(87)

حين يصفو وجه الحبيب؛ يصفو وجه الحياة.

أليست الحياة، في أحد تجلياتها الجميلة؛ هي مَنْ نحبهم؟!..

بلى، وهي ذلك الشعور الساحر الذي يخالطنا كلما لقيناهم بعد افتراق، وهي شعورنا بأن اللحظة الأجمل هي لحظةَ نتقن فيها صناعة أسباب سعادتهم، وهي أدعيتنا الصادقة ونوايانا الطاهرة وسعينا الدؤوب في أن تجمعنا بهم جنة الدنيا والآخرة..

الحبيب أيقونة الحياة،

وبه تتعلق، أو تتصل (على الأقل)؛ فاعليات الإنسان في أكثر من جانب.

 

(88)

حفظت لنا كتب التاريخ والأدب مقولات ملهمة. ربما كانت تبدو في زمانها غير ذات قيمة، أو كانت من المعتاد الذي يمر على سمع الناس فلا يلفت ولا يثير، ولا يُتَصَوَّرُ -في أحسن أحواله- أن يتجاوز حدود الزمان والمكان. ولولا عبقرية من انتبه لها فرواها، وشَغَفُ من اهتم بها فأثبتها في الكتب؛ لضاعت، فحُرِمْنا بذلك مما يمكن أن نستدل به على واقع اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي أو غيرها من الشؤون التي يعدها الباحثون شواهد وقرائن مهمة في استقراء تفاصيل جرت في زمان سابق.. جزى الله عنا خيرا حَمَلَةَ التاريخ والأدب.

 

(89)

على مؤسسات التربية والتعليم أن تكون حازمة في ألا يعمل فيها إلا الأكْفَاء المخلصون. أؤلئك مؤتمنون على مقدرات الوطن ممثلةً في أفكار أجياله التي ستبنيه. فإن الكفء المخلص؛ كما يسوق المادة العلمية القَيِّمة، يبني في طلابه من القيم ما يُحِبُّ أن يراه في بنيه وخاصته؛ وكما يُحْسِن الإفتاء فيما يُشْكل من شؤونِ تعليمه، يُحْسِن النصح الصادق فيما يراه مُحْرِجا من الأخلاق.

وإن الجيل الذي يخرج على يدي مثل هذا؛ جيل -لا ريب- يستشعر مسؤوليته تجاه وطنه، عن زادٍ متين: قيمٍ دينية وإنسانية فضلى، ومعرفة علمية وعملية راسخة. جيل جدير بأن يعول عليه، ويوكل إليه، وإنه لخليق بأن يكون الخير -بإذن الله- على يديه..

 

(90)

في أبنائنا مظاهر من حياتنا التي تطورت ونضجت عبر مراحل العمر المختلفة.  نستطيع أن نرى شيئا مما كنا عليه فيما يصدر عنهم من سلوكات لطيفة أو مزعجة، وأن نتبين بعض تاريخنا اللفظي أو الصوتي في جرس أصواتهم وطرائق نطقهم، وأن نستقرئ في تغير أشكالهم واختلاف ما يقوله الأقارب والأباعد من عقد المشابهات بينهم وبين الوالدين أو عموم أهليهم؛ نستقرئ في كل هذا خارطة التغيرات التي عبرت من خلالها مظاهرنا الحالية..

إنهم يديرون شريط ذكرياتنا التي لم توثق بأحسن مما يوثق اليوم وغدا!

- هنيئا لنا بهم..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق