الاثنين، 1 مايو 2017

يوميات صينية | الجزء الأول

عن زيارة
مدينتي فوشان وجوانزو
خلال الفتـــــــــــــــــــــــــــــــــرة (12-17/3/2017م)

(1)
في الصين تجد الغني والفقير. الغني غنىً فاحشا والفقير فقراً مدقعا. يظهر هذا مثلا في الشوارع ، فبينما يقود بعضهم السيارات الألمانية الفخمة كالبورش وغيرها؛ تجد بعضهم ماشيا وبعضهم على دراجة، وبعض باعة الشوارع لا يملك إلا أن يدفع عربة متهالكة أمامه لحمل بضاعته.

(2)
لم أر أي متسول في الشوارع طوال الأسبوع الذي قضيته هنا. ليس هذا كافيا -بالطبع- للحكم بعدم وجود متسولين في الصين كلها، ولكنه منظر ملفت للانتباه على أية حال. الجميع هنا يعمل. من لا يجد دكانا يتخذ زاوية ما في الشوارع لعرض بضاعته، أو يقف بسيارته التي جهزها لتكون محل خضراوات أو مطحنة وغيرها على جانب من الطريق، أو يدفع عربة أمامه ينتقل بها من مكان لآخر، أو يحمل بضاعته على كتفيه خلوا من أي آلة تساعده.

(3)
ثمة أشياء لا توجد في مدينة (فوشان)، أو لا تتوفر كما تتوفر عندنا في عمان.
- مثلا؛ لم أرَ في الشارع أي محل لغسيل الملابس، ولا يوفر الفندق –الذي نزلنا فيه- مكواة لنزلائه: (اضطررنا لاستعارة مكواة من بيت السائق الذي يرافقنا كل يوم).
- لا يتوفر الخبز الدائري كثيرا في المخابز: (في المطاعم يصل سعر الرغيف الواحد حوالي 300 بيسة، وهو يشبه -على نحو ما- خبز الشباتي).
- لا يوجد اللبن في المحلات الكبيرة ولا البقالات ولا المطاعم، باستثناء بعض المقاهي التركية والعربية التي توفر لبن (عيران) فقط، كما أنه ليس بنفس الطعم المالح المعتاد عندنا، وقس على هذا أكثر منتجات الحليب إن لم تكن كلها: (في إحدى المرات، نزلنا المطعم الذي تعودنا تناول الإفطار فيه ومعنا علبة (قشطة) جلبناها معنا من عمان. طلبنا من النادل صحنا، وبدا لنا -بحسب ما لاحظناه في عيونهم- أن القشطة -بين وجبات المطعم المعتادة- غريبة الوجه واليد واللسان!)


(4)
تضطر الأمهات الحديثات الولادة لحمل أطفالهن معهن إلى المحلات التي يعملن فيهن. حين دخلنا أحد المحلات رأيت البائعة تجذب عربة صغيرة إلى حيث نتجه، وإذا به طفلها الصغير. كنا نفاوضها  على السعر، وكان طفلها يفاوضها ببكائه على إرضاعه أو ملاعبته، وكانت المسكينة موزعة العينين والقلب بين الواجبين!


(5)
السائق الذي يأخذنا في كل يوم للسوق؛ تعمل زوجته في أحد المحلات. يخرجان من البيت معا في الصباح ولا يعودان إليه إلا في المساء. سألته:  ومن يكون مع طفلكما حين يعود من المدرسة؟ أجاب: (يمكث مع إحدى جدتيه، حتى نعود). بعض المدارس -وربما كلها، لست متأكدا- تُخرج طلابها في الخامسة، قبيل خروج آبائهم من العمل -الذي ينتهي (عادةً) في السادسة-، ربما من باب التزام المدارس بتطويع أنظمتها لتناسب ظروف المجتمع. يقول الرجل: إن ثمة وقتا مخصصا للغداء والنوم في المدرسة، حالهما حال بقية المواد في جدول الحصص المدرسية.

(6)
الصينيون طيبون. هذا ما يبدو لنا في مدينة (فوشان) -على الأقل-. يتفاعلون حين تبتدرهم بالكلام، ويردون التحية بمثلها، وعلى محيا كثير ممن رأيت منهم رضا وهدوء. في بعض المطاعم والأسواق انتبهت إلى أن بعضهم يطيل النظر إلينا، وفي عينيه مزيج من أسئلة بريئة واستغراب غير فظ ولا غليظ.. حالة أقرب إلى البساطة منها إلى التعقيد.

(7)
في هذه الزيارة وزيارات سبقت لبلدان أخرى؛ حمدت الله على نعمتين: نعمة الإسلام، ونعمة اللباس العماني. لقد كنت أحسب أن فكرة (عدم تزويد دورات المياه –أكرمكم الله- بصنابير مياه للتطهر) مطبقة في المجتمعات الغربية فحسب، ولكنني فوجئت بها في الصين أيضا!..
حين زرت بريطانيا لأول مرة -في فترة سابقة-، ووجدت هذا؛ حمدت ربي على أننا مسلمون، وأن الطهارة أمر لازم في حياة المسلم. وها أنا أجدد الحمد لله على هذه النعمة العظيمة. أليس عجيبا شأن هؤلاء وأؤلئك؟ ما الذي أوحى لهم وأقنعهم أن (قضاء الحاجة) لا يلزم معه التطهر بالماء، رغم أنهم يغسلون أيديهم بعد كل خروج من دورات المياه، ورغم ما يُخَلِّفُه هذا من روائح كريهة لا تتفق ألبتة مع مفاهيم النظافة والأناقة والتحضر التي يزعمون أنهم أهلها؟!..
ولقد زاد الطين بلة في الصين أن كل ما رأيناه من دورات مياه عامة كان مزودا بمراحيض القرفصاء المستوية على الأرض (ما نسميه عندنا المراحيض العربية، وفي ويكيبيديا يرد مسمى "المراحيض الشرقية" أيضا بسبب انتشارها في البلدان الشرقية كاليابان والصين والشرق الأوسط)، بينما لا توجد مراحيض القعود الغربية إلا في الفنادق، حيث تسهل على لابس البنطال مهمته الحيوية، لا سيما إذا كان حديث العهد بهذا اللباس! .. وكانت هذه مناسبة ثانية لحمد الله على نعمة (اللباس العماني) الذي اختاره أجدادنا لنا، فلا مشقة أبدا في مثل هذه اللحظات الحاسمة. ومن الطريف أن أول جملة خطرت ببالي بعد الخروج من دورات المياه العامة في الصين –وهي كما وصفت لكم- كانت الجملة التي يقولها من انتهى من أمر معقد نوعا ما أو ينبغي التعامل معه بحذر شديد: "تمت العملية بنجاح"!!
*
ربما يمتعض البعض من هذه اليومية. حسنا؛ أنا أعتذر، ولكن الأمر كان مثيرا للاستياء من ناحية، ومن ناحية أخرى كان فرصة للشعور بالامتنان بإزاء نِعَمٍ نغفل قدرها في خضم الحياة المعتادة!

(8)
في العملة الصينية كلمات مكتوبة بأحرف عربية، لكنني لم أفهم شيئا منها. ذكرتني بما نلاحظه في كتابة اللغة الفارسية ولغة الأوردو عند الباكستانيين؛ نتبين الأحرف العربية ولا نعرف معنى للكلمات. خطر ببالي أنها تمثل بعض العرقيات المسلمة في الصين تستخدمها في كتابة لغتها. وبـ (جوجلة) الموضوع تأكدت أنها كذلك. تقول (ويكيبيديا) إنها كتابة عربية صينية (كتابة الألفاظ الصينية بالعربية) تسمى (شيوئرتشنغ) طورها مسلمون صينيون من قومية (هوي) خلال القرن السادس عشر. وقد كانت تستخدم في المدارس الدينية لكتابة تفاسير للكتب الدينية العربية، ثم ما لبثت أن انتشرت في كل مناحي حياتهم اليومية، وهي –إلى اليوم- مستخدمة في مقاطعات عدة.
كذلك، وقد لاحظت أن بعض المحلات في مدينة فوشان وجوانزو تضع لافتات بالعربية إلى جانب اللغة الصينية. لست أدري إن كان هذا من باب التفاعل مع الزبائن العرب أم أن الأمر يشبه أمر الكلمات في العملة، بمعنى أن أصحاب المحلات تلك ممن ينتمون إلى هذه العرقية، مع ملاحظة أن الكلمات عربية، ولكنها العربية التي يشوبها التكسير.

(9)
أظن أن كل زائر للصين سيخرج بانطباع مفاده أن الصينيين يعتزون أيما اعتزاز بلغتهم القومية. يبدو هذا واضحا في كثير من لافتات الشوارع والمحلات، وفي قوائم الطعام في المطاعم، وفي بيانات بعض المشروبات العالمية الوافدة من الخارج كالمشروبات الغازية؛ لا تجد فيها كلها إلا اللغة الصينية وحيدة متفردة بدون ترجمة إنجليزية، وإن حضرت الإنجليزية فهو حضور باهت لمسمى العلامة التجارية أو لوصف لازم مقترن بها. لاحظنا هذا أيضا في السيارات، إذا يقابل المسمى العالمي للسيارة -المكتوب بالإنجليزية- مسماها باللغة الصينية.. حالةٌ لا نظير لها في بلادنا العربية، التي يفسح أبناؤها –بأنفسهم للأسف- المجال للإنجليزية وغيرها لتضييق الخناق على لغتنا العربية!
حين كنت أرى مثل هذا الإصرار الصيني على أن تكون اللغة القومية حاضرة في كل شيء حضورا قويا؛ خطر ببالي أن الصين تريد أن تقول للعالم: إن لغتي لا تقل شأنا عن اللغة الإنجليزية، إنها لا تحتاج إلى شراكة مع لغة أخرى كي تُقْبل، وإنكم إن لم تفهموها فتلك مشكلتكم. وربما كان المراد هو المجتمع في الداخل؛ أن يعتز بلغته وأن ينظر إليها واحدة لا شريك لها، فتتأصل لديه، ويعتز بثقافته وتاريخه وكل ما تسهم اللغة فيه من قيم وعادات وتقاليد وغيرها..
لاحظت أيضا أن عددا من الباعة في سوق الأثاث ليست لديهم أدنى معرفة بالإنجليزية، وكنت أقول لصديقي: إن الباعة في سوق الأثاث كان ينبغي لهم أن يتعلموا بعض المفردات الإنجليزية حتى يتمكنوا من التواصل مع زبائنهم القادمين من أنحاء شتى من العالم، وأقلها الكلمات المفتاحية لعرض البضاعة وبيعها، فقال: إذا كانت إدارة الفندق لا تهتم بأن يكون لدى موظف الاستقبال حظ –ولو قليل- من الإنجليزية؛ فما على الباعة من حرج!
/
//

(( يتبع ))

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق