الجمعة، 30 سبتمبر 2011

أنا أحب وطني.. أنا مسجون !!


هذا رجل بريء ونزيه ..
ملامحه لا توحي أبدا بغير معاني الخير والحب والرحمة ، وحديثه عذب لطيف لا يمل، فهو أستاذ مثقف ومحاضر رائع في الجامعة، وهو إلى ذلك على مستوى جيد من الخبرة والدراية بأمور الحياة!!
لكنه مسجون!!
أسأله عن السبب، فيقول: (لأني أحب الوطن)،  (لأنك تحب الوطن !!).. أقولها مندهشا، فيؤكد الجواب لي بإيماءة من رأسه وهو يبتسم، أحاول أن أصلَ به إلى سبيل غير الذي هو فيه ولكنه لا يرضى، وكأنما سلَّم بالأمر..
إنه مسجون لأنه يحب وطنه، ويحيا من أجله وعزته ورفعته، ويبذلُ في سبيل ذلك من جهده وماله الغالي والثمين..
رجل من طراز عجيب في زمن تفاجئنا فيه العجائب يوما بعد يوم!!

لقد سجن نفسه !
لقد قرر بنفسه مصيره ، واختار لنفسه هذا المكان . تلقى عروضا كثيرة ليخرج ولكنه أبى ، وقال إنه السم في العسل . كان يمكن أن يحظى بوضع أفضل لو أنه هاجر إلى بلد من بلدان الغرب وقضى فيه ما تبقى له من العمر لينعم بحياة مترفة يستحقها أمثاله ممن يعملون بجد وإخلاص وتفانٍ ، ولكنه كان دائما يؤثر البقاء .
أستاذٌ عراقي ، جلستُ إليه حين سمحَ الزمان ذات صباح جميل . أقبل علينا مفعما بالنشاط والحيوية لإلقاء محاضرة في فن الإدارة ، وأخذنا نتحدث . يقول : ( تلقيت عروضا كثيرة للهجرة إلى بلدان الغرب ، وقال لي بعض أصدقائي إنهم سيتدبرون أمر حصولي على الجنسية هناك ، وإن أوضاعي المعيشية ستتحسن كثيرا ، ولكني – رغم ذلك كله – آثرت البقاء في إحدى بلدان وطني العربي . إنهم يغرقوننا بالأموال هناك ، ليس لسواد أعيننا وحبهم لنا ، ولكن لما نحمله من علم . إنهم يستحوذون بأموالهم ياسيدي على الطاقات العربية المنتجة ليقيموا بنيان حضارتهم ، فيما يخسر الوطن العربي هذه الثروة بسبب أوضاعه المتردية في السياسة والاقتصاد وغيرها)..
رشف بقية فنجان القهوة العربية بتلذذ ، وقال : ( أعلم أن أوضاعي ستتحسن هناك ) ثم وهو يبتسم (ولكن ماذا أفعل؟.. أنا رجل مسجون بحب الوطن !!)
تأملت في حال هذا الأستاذ الكريم الذي صيّره حبه الكبير لوطنه وأمته مسجونا في إطار موطنه العربي فحسب ، فأيقنت أن بعض السجن جنة وحرية وفضاء واسع لإبداع رائع ، وأن هذا السجن هو المبدأ الذي ينبغي أن يحمله المثقفون والعلماء العرب !..
إن ( السجن ) هنا كلمة مستعارة ليس يعنينا منها إلا الحدود التي ترسم الحركة ضمن إطار معين لا يمكن تجاوزه إلى غيره .. إنها استعارة تقترب من قول المتنبي حين قال ذات يوم : ( وقيدت نفسي في هواك محبة  ،،،  ومن وجــد الإحســان قيدا تقيــدا ) ..
نعم ، إن هذا السجن هو الحب الذي يقيد الإنسان عن الحركة خارج دنياه ، ولا يسمح له بالحركة إلا في العوالم التي تنطق كل جنباتها بحروف الحب ومعانيه. وقد قيَّد هذا الأستاذَ حبُّه لموطنه وإخلاصُه لدينه وأمته ، فأكرم به من حب ، وأحبب به من قيد !

السجن ضرورة !
نحن في الواقع أشد ما نكون حاجة إلى هذا السجن الذي يدفع بنا إلى أن نوجه كل علومنا ومعارفنا وخبراتنا نحو خدمة موطننا العربي باعتبار ذلك الهمَ الأول . نحن بحاجة إلى هذا الوعي المهم الذي يلغي الحدود التي وضعها بيننا الاستعمار البغيض ، ويتوجه بنظرة واحدة إلى كل بقعة في هذا الوطن الكبير . فليس مهما أن يبدع العالم المصري في مصر بقدر أهمية أن يكون نتاجه العلمي مسجلا في أرض عربية ، وليس معيبا أن يكون للعراقي دور في النهوض بالثقافة في بلد عربي غير العراق ،  وليست خسارةً أن يكون للعماني استثمارات في غير عمان من بلدان الوطن العربي..
إنه الفكر الذي نريده ، ونبحث عنه .. فكر يبتعد بنا عن الإقليمية الضيقة والنعرات الطائفية أو المذهبية وغيرها .. فكرٌ يحاكم نفسَه وفق المبادئ التي أرساها الدين الحنيف والمصلحون المخلصون من بعد ، ويجعل شعاره الأبدي : ( معا من أجل وطن عربي موحد وقوي ).
إن وجود العقول العربية على أرض الوطن العربي مهم جدا وينبغي أن يحرص عليه ويسعى من أجله صناع القرار ، فهذه الكوادر هي الثروة الباقية التي لا تنضب ، وهي السلاح الفعال في مواجهة قوى الاستعمار والاحتكار .
على أن الحرص على بقاء هذه العقول داخل الوطن لا ينبغي – بأي حال من الأحوال – أن يكون عن طريق القهر والجبر ، فلن يتحقق إبداع يظلله القهر والطغيان ، ولن ينفعَ علمٌ تسوقه عصا الجبر والكبت . بل يجب أن يكون ذلك بتوفير البيئة الجاذبة ، التي تعني – بإجمال – توفيرَ الحماية والرعاية في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية وغيرها .
من ناحية أخرى ، ينبغي أن يتحلى أربابُ هذه العقول بقليل من الصبر والرضا والقناعة وكثير جدا من الوعي عند عدم وجود الحوافز المعيشية المشجعة ، فالخسارة الناشئة عن وجودهم ضمن واقع  غير مرضٍ ربما تكون خسارة غير كبيرة لكونها تنال ذواتهم الفردية، في حين أنه من المؤكد فداحةُ الخسارة الناشئة عن هجرتهم إلى دول الغرب لأنها تمس الذات المجتمعية .

عقول هاربة
تكشف تقارير الأمم المتحدة والجامعة العربية وإحصاءات بعض الأجهزة الرسمية في البلدان العربية عن أرقام خطيرة لهجرة العقول العربية ، وهو أمر يكشف بجلاء عن أهمية ما ندعو إليه – فيما سبق – أصحاب القرار من ناحية ، و العلماء والمثقفين العرب من ناحية أخرى .
يشير تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية في الوطن العربي (2003) إلى أن عام 1996 شهد هجرة 25% من أصل 300000 من خريجي الجامعات العربية إلى أمريكا الشمالية ودول السوق الأوربية، و إلى أنه بين عامي 1998 و  2000 غادر أكثر من 150000 طبيب عربي للخارج ، وقد أدى ذلك وغيره من هجرة العقول إلى خسارة للدول النامية بسبب كل ما أنفقته على تعليم هؤلاء تصل إلى 42 مليار دولار ، في مقابل وفرة تبلغ 1.8 مليار دولار حققتها أمريكا في الإنفاق على التعليم.
وتشير بعض التقارير إلى أن هجرة العقول العربية إلى الولايات المتحدة وكندا وبعض الدول الأوروبية تتسبب في خسائر مالية للوطن العربي تقدر بأكثر من 200 مليار دولار سنويا .
وفي مصر وحدها ، تقدر بعض الأجهزة الرسمية عدد العقول المصرية المهاجرة بنحو 824 ألفا بحسب إحصاء صدر في عام 2003 ، من بينهم 2500 عالم .
وفي تقارير لجامعة الدول العربية ومنظمة العمل العربية وبعض المنظمات المهتمة بهذه الظاهرة تشير الإحصاءات الى ان الوطن العربي يساهم بـ 31% من هجرة الكفاءات من الدول النامية، وأن 50% من الاطباء، و 23%من المهندسين، و 15% من العلماء من مجموع الكفاءات العربية يهاجرون متوجهين الى الولايات المتحدة وأوروبا وكندا بوجه خاص وأن 5.4% من الطلاب العرب الذين يدرسون بالخارج لا يعودون الى بلدانهم .
ويقول بعض الباحثين إنه في حين تخسر الدول العربية من ظاهرة هجرة العقول فإن اسرائيل تستفيد منها بفعل الهجرة عالية التأهيل القادمة اليها من شرق أوروبا وروسيا وبعض الدول الغربية . و ما يضاعف الحسرة والألم ويثبت خطورة هذه القضية هو أن عدداً من هؤلاء يعملون في أهم التخصصات الحرجة والاستراتيجية مثل الجراحات الدقيقة، والطب النووي والعلاج بالاشعاع والهندسة الالكترونية والميكرو الكترونية، والهندسة النووية، وعلوم الليزر، وتكنولوجيا الانسجة والفيزياء النووية وعلوم الفضاء والميكروبيولوجيا والهندسة الوراثية ، هذا فضلا عن العلوم الانسانية كاقتصاديات السوق والعلاقات الدولية .
إن هذه الحقائق المذهلة تستوجب منا التفكير والتأمل والتدبر في هذه القضية . فإذا كان من الحق أن نوجه اللوم الشديد على الحكومات وصناع القرار بسبب عدم توفير المناخ الجاذب لهذه الكوادر المؤهلة ، فإن من الحق أيضا أن نوجه جانبا غير قليل من هذا اللوم إلى أرباب هذه العقول ، فإن العلم إذا لم يصُنْه المبدأ الأصيل ينقلب وبالا على البلاد والعباد .

ينبغي لحبك أن يقيدني !
يقولون إن المرأة تستعذب قيد الحب فتستسلم له طائعة ، بينما الرجل ينفر من القيود وكثيرا ما تأتي محاولاته للخلاص متأخرة جدا . لكننا هنا لا نتحدث عن الحب بين رجل وامرأة لا يجدان في الحب إلا قيدا يحد من حريتهما ، ولسنا معنيين أكثر بالقيد كما يفهمه السجان أو رجل الأمن . نحن نتحدث عن القيد الذي يجعل الأبواب مشرعة على فضاء واسع من الحرية..
هل يمكن أن يكون القيد مفتاحا للحرية؟؟
نعم ، فحتى الحرية لا بد أن تكون مؤطرة ضمن حدود تنتظم فيها معالمها وتستبين لكل باحث عنها. والحرية التي نتحدث عنها هنا هي التي تأتي نتاجا للمبدأ الحر . هل يمكن أن يكون المبدأ سجنا أو قيدا ؟ .. بالطبع كلا !.. فالالتزام بفكر محدد ورأي ثابت في شأن من الشؤون وعدم الحيدة عنه إلى ما سواه لايعني أبدا كبتا للحرية ، بل هو الفهم الكامل الأعمق لمفهوم الحرية.
و إذن فينبغي لحبك يا وطني أن يقيدني ..
بهذا المنطق ينبغي أن يفهم القارئ الكريم حديثنا هذا كله ، وبه أيضا ندعو إلى القيد والسجن !!

كلمة أخيرة

وهاك يديّ فَقَيّدْهُما ،،، بحبك وليَدُم أسري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق