السبت، 10 سبتمبر 2011

المقدمة الشاعرة


أعيش هذه الأيام بعض أجواء المعارك الأدبية التي كانت تجري بين أدباء مصر في النصف الأول من القرن المنصرم .. وفي كتاب (على السفود) للرافعي أثبت مراجعُ الكتاب المقدمة التي كتبها الرافعي العظيم لديوانه عام (1904 م)، وفيها ذكر أسماء عدد من شعراء العربية القدامى وما اشتهروا به من موضوعات الأشعار.. ذكر ذلك بلغة الأديب المتفنن واقتدار العالم المتمكن. قال الشيخ إبراهيم اليازجي عن هذه المقدمة(... ذهب فيها مذهبا عزيزا في البلاغة, وتبسط ما شاء في وصف الشعر وتقسيمه وبيان مزيته في كلام تضمن من فنون المجاز وضروب الخيال ما إن تدبرته وجدته الشعر بعينه).
**
أترككم مع جزء من هذه المقدمة البديعة !
**
" قُصدت القصائد على عهد عبد المطلب أو هاشم بن عبد مناف وهناك رفع امرؤ القيس ذلك اللواء وأضاء تلك السماء التي ما طاولتها سماء، وهو لم يتقدم غيره إلا بما سبق إليه مما اتبعه فيه من جاء بعده، فهو أول من استوقف على الطلول ووصف النساء بالظباء والمها والبيض وشبه الخيل بالعقبان والعصي وفرق بين النسيب وما سواه من القصيدة وقرب مآخذ الكلام وقيد أوابده وأجاد الاستعارة والتشبيه؛ ولقد بلغ منه أنه كان يتعنت على كل شاعر بشعره.

ثم تتابع القارضون من بعده فمنهم من أسهب فأجاد، ومنهم من أكب كما يكبو الجواد، وبعضهم كان كلامه وحي الملاحظ وفريق كان مثل سهيل في النجوم يعارضها ولا يجري معها، ولقد جدوا في ذلك حتى أن منهم من كان يظن أن لسانه لو وضع على الشعر لخلقه، أو الصخر لفلقه.

ذلك أيام كان للقول غرر في أوجه ومواسم بل أيام كان من قدر الشعراء أن تغلب عليهم ألقابهم بشعرهم حتى لا يعرفون إلا بها كالمرقش والمهلهل والشريد والممزق والمتلمس والنابغة وغيرهم؛ ومن قدر الشعر أن كانت القبيلة إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك وصنعت الأطعمة واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس. وأيام كانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتج. وكانت البنات ينفقن بعد الكساد إذا شبب بهن الشعراء.

ولم يترك العرب شيئا مما وقعت عليه أعينهم أو وقع إلى آذانهم أو اعتقدوه في أنفسهم إلا نظموه في سمط من الشعر وأدخروه في سفط من البيان حتى أنك لترى مجموع أشعارهم ديوانا فيه من عوائدهم وأخلاقهم وآدابهم وأيامهم ما يستحسنون ويستهجنون حتى من دوابهم.

وكان القائل منهم يستمد عفو هاجسه وربما بلفظ الكلمة نحسبها من الوحي وما هي من الوحي ولم يكن يفاضل بينهم إلا أخلاقهم الغالبة على أنفسهم. فزهير أشعرهم إذا رغب، والنابغة إذا وهب، والأعشى إذا طرب، وعنترة إذا كلب، وجرير إذا غضب، وهلم جرّا.

ولكل زمن شعر وشعراء ولكل شاعر مرآة من أيامه فقد انفرد امرؤ القيس بما علمت واختص زهير بالحوليات واشتهر النابغة بالاعتذارات وارتفع الكميت بالهاشميات وشمخ الحطيئة بأهاجيه وساق جرير قلائصه وبرز عدي في صفات المطية وطفيل في الخيل والشماخ في الحمير، ولقد أنشد الوليد بن عبد الملك شيئا من شعره فيها فقال ما أوصفه لها إني لأحسب أن أحد أبويه كان حمارا.. وحسبك من ذي الرمة رئيس المشبهين الإسلاميين أنه كان يقول" "إذا قلت كأن ولم أجد مخلصا منها فقطع الله لساني" ولقد فتن الناس ابن المعتز بتشبيهاته، وأسكرهم أبو نواس بخمرياته، ورقت قلوبهم على زهديات أبي العتاهية وجرت دموعهم لمراثي أبي تمام وابتهجت أنفسهم بمدائح البحتري، وروضيات الصنوبري ولطائف كشاجم. فمن رجع بصره في ذلك وسلك في الشعر ببصيرة المعري وكانت له أداة ابن الرومي وفيه غزل ابن أبي ربيعة وصبابة ابن الأحنف وطبع ابن برد، وله اقتدار مسلم وأجنحة ديك الجن ورقة الجهم وفخر أبي فراس وحنين ابن زيدون وأنفة الرضي وخطرات ابن هانئ، وفي نفسه من فكاهة أبي دلامة ولعينيه بصر ابن خفاجة بمحاسن الطبيعة وبين جنبيه قلب أبي الطلب فقد استحق أن يكون شاعر وصناجة عصره. وأبرع الشعراء من كان خاطره هدفا لكل نادرة فربما عرضت للشاعر أحوال مما لا يعني غيره فإذا علق بها فكره تمخضت عن بدائع من الشعر فجاءت بها كالمعجزات وهي ليست من الإعجاز في شيء ولا فضل للشاعر فيها إلا أنه تنبه لها، ومن شديده على هذا جاء بالنادر من حيث لا يتيسر لغيره ولا يقدر هو عليه في كل حين. وليس بشاعر من إذا أنشدك لم تحسب أن سمعه مخبوء في فؤادك وأن عينيك تنظر في شغافه، فإذا تغزل أضحك إن شاء وأبكاك إن شاء وإذا تحمس فزعت لمساقط رأسك. وإذا وصف لك شيئا هممت بلمسه حتى إذا جئته لم تجده شيئا، وإذا عتب عليك جعل الذنب لك ألزم من ظلك، وإذا نثل كنانته رأيت من يرميه صريعا لا أثر فيه لقذيفة ولا في نفسه وكأنما استقر على جمر وإذا مدح حسبت الدنيا تجاوبه وإذا رثى خفت على شعره أن يجري دموعا وإذا وعظ استوقفت الناس كلمته وزادتهم خشوعا وإذا فخر اشتم من لحيته رائحة الملك فحسبت إنما حفت به الأملاك والمواكب.

وجماع القول في براعة الشاعر أن يكون كلامه من قلبه، فإن الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان."


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق