الأربعاء، 16 مارس 2011

مسرحية : مواء القطة .. رؤية اجتماعية ثقافية

المسرح فن جميل. إنه الحياةُ مصغرةً في مساحة صغيرة.. ينتزعنا من الحياة ليعيد إنتاج شخصياتنا من جديد، فإذا رجعنا إلى حياتنا مرة أخرى، وجدنا الحياة شيئا آخر..!! أداةٌ فاعلة يحتاجها أصحاب التأثير -على تعدد رؤاهم وأساليبهم- في مواجهة الإنسان والكون والحياة.
ومهرجان المسرح العماني تجربة معطاءة في هذا السبيل، وشرفة رائعة على الجديد في هذا العالم تستحق الإشادة والتقدير، ولابد من دعمها حتى تستمر وترقى..

كنت ضمن من حضروا لمتابعة مسرحية (مواء القطة) التي فازت بجائزة أفضل عرض مسرحي ضمن فعاليات مهرجان المسرح العماني الثالث. فكرة النص جميلة جدا، ولها دلالات بالغة العمق، تدور حول زوج وزوجته يعكس من خلالهما المؤلف في رمزية جميلة واقع الأمة. فالزوج هو (أبو شوارب) الذي حلق شواربه بعد أن تغيرت الأسباب من حوله ليعيش أسيرا للماضي حيث كان قويا ومهابا، تتغزل فيه النساء، ويتمنى الرجال من حوله أن يكونوا مثله. والزوجة (عذراء)، تضطر إلى ممارسة البغاء بعد أن ضاقت بها سُبُل العيش، أملا في الحصول على قوت يومهم، ورغم علم زوجها بذلك، فإنه يستمر في العيش في ماضيه، هربًا من واقعه المرير. فأبو الشوارب –إذن- رمز للأمة، وزوجته رمز للأرض.

النص المكتوب باللغة الفصحى، كان أداء الممثليْن له خليقا بالإعجاب. هنا تكتشف جمال اللغة العربية، حين تختلط بتفاصيل الحياة المعاصرة.. تنتقل كلماتها بسلاسة ولطف بين المتكلميْن، فتعظم في العينين، ونرجع أدراجنا ونحن أشد حبا لها من قبل.. هل كان كاتب النص –عندما اختار الفصحى وعاءً لفكرته- يهدف فعلا إلى أن يحببها إلى من لا يحبها، أو أن يبلور حب الذين تدفعهم العاطفة إلى حبها دون قناعة عقلية فيتأسس على تجربة حقيقية؟
هكذا يعمل المسرح في أكثر من حقل، ويلعب على أكثر من وتر، ويؤكد على إمكانياته القوية في الدفع بذائقة المجتمع إلى الأمام، لتكون الرؤى الجمالية لدى كل فرد فيه أكثر عمقا وأصالة..

رغم هذا كله، ورغم أن الممثلين اللذين قدما العرض على مستوى رفيع من المهارات المسرحية، فإن توجيه هذه المهارات –وهنا نُشْركُ معهما المخرج- لم يكن في صالح المجتمع! لأن العرض الذي قدمت به المسرحية، من شأنه أن يؤسس ثم يكرس لانفصال حاد بين الفن وأخلاقيات المجتمع الذي ينظم هذا المهرجان، ويفترض أن يكون قد وُجد من أجل الرقي به ثقافيا وفكريا وروحيا..
الحقيقة أنني لم أخرج بانطباع طيب، ولم يفضِ بي العرض إلى سعادة غامرة كما كنت أتمنى، وأكثر من هذا أجدني أقف على حقيقة مفادها أننا كنا من البراءة والطيبة بمكان كبير!!.. فقد حسبت أن الوسط الفني في عمان مهما عصفت به رياح التغريب التي تنكأ جراح الأخلاق والقيم هذه الأيام، فإنه لا يمكن أن يسمح لنفسه بتجاوز ما تعارف عليه المجتمع العماني المسلم من مبادئ الدين وتقاليد الحياة الاجتماعية فضلا عن أن يضرب بها عُرْضَ الحائط!!..

العرض حافل بالإيحاءات الجنسية الواضحة في كثير من تفاصيله، وحتى أكون موضوعيا دعوني أؤكد على هذه الكلمة: (إيحاءات) لأنها حركات لم تصل إلى الصورة الكاملة للقبلة والعناق وما يليهما.. أما التماس بالأيدي، و دوران الأجساد حول بعضها من قريب، وحركات الرقص، والاضطجاع جنبا إلى جنب..، فهو كثير كثير بدرجةٍ تجعل الناظر يشكك في أن ما يراه عرضاً مسرحياً عمانيا!
وهذا الكثير الذي نتحدث عنه يشكل ضربة موجعة جدا للنص، لأن فكرة النص البعيدة هي تعميق الشعور بالأسى بإزاء ما آلت إليه الأمة من وضع مزرٍ أصبحت فيه موضع سخرية من الأصدقاء والأعداء، يومَ أن تخلت عن مكامن القوة لديها وأسباب العزة والهيبة، مما جعل أرضها وما فيها من ثروات نهبا للاستعمار.
النص إذن يستفز فينا روح التغيير، لاستعادة عزتنا ومجدنا التليد، وهو ما لن يتحقق بالطبع إلا بالأخذ الجاد بأسباب هذه العزة والهيبة مجتمعة..
أقول: إنه يشكل ضربة موجعة للنص، فالعرض –بالطريقة التي قدم بها- يحلق شوارب المجتمع لأنه يدفع باتجاه أن يتخلى أفراد المجتمع عما يعمق انتماءهم إليه من عادات و تقاليد حميدة تشكل رمزا واضحا للهوية.. هو لا يقول ذلك صراحة، و لكنه يصب في اتجاه تطبيع بعض الأفكار والمفاهيم الدخيلة..!!
فهو عِوَضَ أن يستفز طاقات المجتمع -كما يُفهم من النص- باتجاه التغيير الإيجابي، يستفز بشكل صريح مشاعر قطاع واسع من المجتمع العماني، يحبون الفن ولكنهم يحبون فيه الأخلاق، ويرحبون بالجديد ولكن ليس على حساب إرثهم الديني و التاريخي..

فما قيمة المسرح في ميزان الحياة الاجتماعية، إذا لم يدعم الأسس الدينية والاجتماعية والثقافية التي أنفق عليها المجتمع مئات السنين بالأنفس والأموال حتى تكون هوية وعلامة؟
وما قيمة المسرح في الميزان الوطني، إذا كانت خطابات عاهل البلاد وسيد النهضة الحديثة وتوجيهاته تشدد وتؤكد على أهمية المحافظة على المنجز الثقافي والاجتماعي للوطن العماني، بينما يلعب المسرح في الاتجاه المعاكس باسم الثقافة والتطوير والتحرير، ليخرج لنا جيلا بلا ثقافة ناضجة، غير قادر على صنع الحضارة أو التعبير الطاهر عن الحرية؟
لقد أكدت أقوال جلالة السلطان –حفظه الله- وأفعاله على أهمية أن يدرك العمانيون القوة الماثلة في تاريخهم،  فهو يقول في خطاب العيد العاشر (مثلا): "إننا حين نعمل ونخطط للتطور المادي والاجتماعي لبلدنا، يجب أن نضع دائما نصب أعيننا حقيقة وهي: أن قوتنا لا تكمن في الازدهار المادي وحده، بل إن قوتنا الحقيقية تكمن في التراث العماني العريق، وشرائع ومبادئ ديننا الإسلامي الحنيف. لذلك يجب أن لا ندع الأشياء المادية والأفكار الدخيلة تستحوذ على مشاعرنا لدرجة تجعلنا ننسى تراثنا وتقاليدنا العمانية الأصيلة".

لست ضد التجديد في المسرح، فمن المسلمات البسيطة أن العمل الفني لا يحقق صفة الإبداع إلا إذا كان جديدا لافتا يضيف إلى ما سبق.. لكن البعض يخطئ في اقتناص هذا الجديد، فيجعل من مخالفةِ مألوفِ المجتمع في العادات والتقاليد والثوابت عموما، المرعى الذي تنشط فيه أدواته، ويحسب أنه بذلك يفي بما يطلبه الإبداع الفني منه، فيما كان بإمكانه أن يأتي بالجديد بناءً على هذه الثوابت، وإعادة إنتاجها وتقديمها ليتلقاها الأجيال في أحسن صورة وأبهى حلة ..
وعندما نقول: (العادات والتقاليد والثوابت)، فأرجو ألا ينصرف الفكر إلى القديم المتهالك الضار الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، فهذا ينبغي تجاهله وتركه. نحن نؤمن بالحرية الفكرية، ونرحب بالتثاقف البناء فالحكمة ضالة المؤمن، لأنها تزيده عمقا معرفيا بما حوله، وارتباطا حقيقيا برب هذا الوجود..  

إن التبعية العمياء، و الخطأ في الوقوع على موضع الاقتداء في النماذج المعروضة أمام الفنان -أيا كان- توقِعُه في مطباتٍ وأمام عراقيل.. وبعبارة أخرى: يحاول البعض -مثلا- الاستفادة مما يكتبه بعض الأدباء العالميين فيجعل من كل أدبِهم قدوةً، زاعما أن النجاح والتفوق يكون في محاكاة هؤلاء الكبار، وناسيا تفاصيل مجتمعه التي قد لا تستجيب لخبرات أولئك الكتاب، وترفض أدواتهم في المعالجة!
وقياسا على هذا، نحن نحب أن يستفيد المسرح العماني من تجارب من سبقوه، ولكن على أن يتأسس هذا على احترام قيم المجتمع، لا على فرض مفاهيم سلبية جديدة تتعارض مع كونه مجتمعا عربيا مسلما..

إن السؤال الاجتماعي والثقافي الذي يطرح نفسه على مهرجان المسرح العماني هو: من يخاطب هذا المهرجان؟ وبأدوات من يعمل؟.. هل يعني السماح لمثل هذا العرض، أن يحفل المهرجان القادم بمشاهد ساخنة كما يحدث في كثير من المسرحيات والأفلام العربية المعروفة.. هل يراد لنا أن نصفق غدا لعروض تهز قناعتنا بما عرفناه من مبادئ وأخلاق، فإذا قلنا لإخوتنا: (إنكم تسيئون للمجتمع) قال قائل منهم: إنك لمجنون فهذه هي رسالة الفن!..

نحن نحب المسرح، ولهذا يُكتب هذا المقال.. نحب المسرح الجميل الذي نريد أن نحضر لعروضه وأيدينا بأيدي أزواجنا وأطفالنا.. نحب المسرح الذي يعزز فينا الأخلاق الفاضلة ويثير فينا الملكات الطيبة الخاملة ويقدم لنا ثقافة تنفعنا في الدنيا والآخرة..
نحب المسرح الذي لا يتقاطع –كما قال أحد الكتاب- مع محتوى الإنسان الأصيل فينا، ويعزز قناعاتنا الاجتماعية التي تحفظ لنا هوية خيرة، فمن ثم ندعوكم أيها المسرحيون والقائمون على مؤسسة المسرح أن تلتفتوا قليلا إلى فلسفة هذه النهضة التي أرسى دعائمها جلالة السلطان المعظم –حفظه الله- .. ألا ترون أننا في كل خطوة نخطوها –خلال ثلاثين سنة- في دروب المدنية الحديثة، نلتفت دائما وأبدا إلى منجزنا الثقافي والاجتماعي..
إننا نرجوكم ألا تسيئوا توظيف المدنية، و أن تضعوا عمان بين أعينكم، وعندها سنحبكم أكثر، وسنحييكم بأجمل ما تكون به التحية!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق