الجمعة، 4 ديسمبر 2020

مشارق | (12)

 

(111)

الصورة المجتزأة عن الذات

صورةٌ تعمي الإنسان وتُصِمُّه،

وهي خليقةٌ بأن تهوي به في ظلمات بعضها فوق بعض.

قد تُعْجِب الإنسان نفسه، وقد يَمْقُتها؛ مادّاً عينيه إلى صفة واحدة فيها تسبح في بحر من الصفات الأخرى التي تخالفها في قليل أو كثير.

وكلما كَبُرت تلك الصفة في عينيه؛ عَمِي -بقدر ذلك- عما وراءها من حَسَنٍ أو قبيح، وكان أدنى إلى ظُلْم نفسه وغيره.

إن هذا لون من ألوان التطرف، والعياذ بالله!

 

(112)

اللحظات السعيدة الطاهرة تَجُبُّ ما قبلها من لحظات تعيسة كافرة، وخليقٌ بها -ما وُجد الوعي والحكمة والموعظة الحسنة- أن تؤَمِّنَ في المستقبل لحظاتٍ أكثر سعادة.. لحظاتٍ جديرةً بأن تعاش أكثر من مرة!

 

(113)

ما تحسبه واضحا، سهلا، لا لبس فيه، ولا غبار عليه؛ لا يبدو كذلك -دائما- لغيرك!

لستَ ذكيا، وليسوا أغبياء..

يرتبط فهمنا لما نرسله من إشارات وما نستقبله، بعدد من المفاتيح الدالة، ربما لا توجد أو لا تصطف في ذهن إنسان ما، كما هي شأنها (تماما) في ذهن إنسان آخر..

لكل كائن من المعاني القارَّة في نفسك حياة عجيبة: من أين جاء، وكيف استقام، وإلامَ انتهى؟..

حياة ترتبط بحياتك أنت.

بمعارفك، وخبراتك، ومهاراتك؛

فعلام تفترض أن حياة هذا الكائن في نفوس الآخرين كما هي لديك؟

 

(114)

حين جعل بعض الحكماء (الكلام) من فضة في مقارنته بـ( الصمت) الذي وجدوه كالذهب؛ فإنهم كانوا يقصدون -على الأرجح- الكلام الذي يجنح إلى أن يكون لغوا باطلا، أو الكلام المكرور دونما داعٍ، أو الذي يبدو مسوقا بنوايا السوء، أو آتيا في غير سياقه، أو غيرها من أنواع الكلام التي لا تُقَدِّم الإنسان في موقف الكلام على نحو حَسَنٍ ولا فاعل..

أقول هذا؛

لأنني استمعت في يوم ما إلى متكلم،

كان لسان حالي بعد حديثه: ليته لم يسكت!

 

(115)

‏يظن الجهال بالعلماء الظنون.

يظنونهم حمقى حين يعالجون البسيط من الأسئلة والموضوعات، ومجانين حين تشغلهم مسائل العلم على نحو أشبه بالوساوس والهذيان.

سيظل الجُهَّال يدورون في فلك الظن القبيح، فيما يدور العلماء في فلك من الإنسانية الخيِّرة الحسنة العالية، وشتان شتان ما بين الدورانين!

 

(116)

قد يكلف المرءَ ضِعْفَ التكاليف المفترضة، في بعض ما يأتيه ويذره؛ أن يتأخر فيما حقُّه التبكير، وألا يأخذ بالحيطة والحذر فيما كان شأنه المخاطرة، وأن يتكاسل ويتراخى فيما يتطلَّب الحزم والعزم، وألا يُرتِّب الأولويِّات التي يتعيَّن أن يسير عليها..

 

(117)

في الدروب الطويــــلة،

في العقبـــــات الكأداء،

في المنعطفات الحادة،

في المســــالك الوعرة؛

يمكنك أن تمضي وأنت في حالة واسعة من الرضا، حتى لكأن من يراك يحسب أنك ترى -من حيث لا يرون- نهاية سعيدة لكل ما أنت فيه!!

لا يوجد ارتباط ضروري لازم بين المصاعب من حولك والحالة النفسية التي يتعين أن تكون عليها. تفسيرك للأحداث؛ يطلقك في أفق أخضر، كما قد يقيدك في القيد الثقيل..

يَقْصُر الدرب بالأمل، تَسْهُل العقبات باكتشاف ما حولها، كن ليِّنا في المنعطف، كن ناعم القوة في الدرب الوعر..

كل شيء إلى منتهى، والعاقبة للخيِّرين!

 

(118)

إن يوما تفتتحه بالجماعة في صلاة الفجر، وبالخلوة في أوراد الذكر، وبالسكينة في تلاوة الكتاب العزيز، وبالمطر الذي قام أدنى من ثلثي الليل في صلاة كونية طاهرة فغسَّل المكان وطيَّبه؛ إن هذا اليوم الذي تقوم فيه هذه التفاصيل يوم استثنائي لا يتكرر كثيرا.. وربما يكون يوما له ما بعده..

فافتح نوافذ روحك وأبوابها، وأيقظ أحلامك وأسبابها؛ ذلك يوم خليق بأن تنفتح معه أبواب خيِّرة كثيرة!

 

(119)

حَرِّضْ روحك على أن تكون سعيدة دائما متفائلة بالخير. حَرِّضْ سعادتك الداخلية على أن تفيض كنهرٍ جارٍ تغتسل منه الأرواح المنهكة..

 

(120)

بشكل أو بآخر؛ تسير (الموضة) على وفق ما قاله شيابنا العمانيون القدماء (ما يعجبه العجب ولا الصيام في رجب)، أو مقولة العرب الحكماء (خالف تعرف)!!

فكلما جنحت الحياة إلى الرقة جنحت هي إلى الغلظة، وكلما اتجهت الحياة إلى الاحتفاء بالكمال كانت هي أدنى إلى النقص، وكلما حافظت الحياة على ما هي خليقة به من تَمَثُّل الصحة والعافية هوت هي بأصحابها إلى تمثل العلل والعاهات!

••

الموضة جنون؛

أعوذ بالله من جنونها!

 

مشارق | (11)

 

(101)

تشبه الأسئلة (المتشائمة) الأسئلة (الحذرة) في وجه -أو أكثر- من الوجوه، فمن ثَمَّ تمكر بنا، وتعبث بمقدراتنا النفسية، بل والمادية أحيانا، وتوردنا موارد غير مستحبَّة ولا مَرْضِيّة..

إن بين النوعين من الأسئلة فرقَ ما بين الخير والشر. إن علينا -والحال هذه- أن ننتبه لما يُحْيي منها وما يُميت، وما يُشْعل فينا الجذوةَ وما يخمدها، وما يجنبنا الفتن وما يقربنا إليها..

نعوذ بالله من مكر الأسئلة!

 

(102)

نكبر، ونشيخ؛

ولكن الحياة -بحلوها، ومرها- تظل تقدح زناد الروح لتَبْعث ما بقي فيها من (آمال الطفولة) و(عزمات الشباب)؛ فنُبعث من جديد..

إننا لا نعيش حياة واحدة، ولكنها حيوات مختلفات، وفي كل حياة إقبال وإدبار، اخضرار واغبرار، جدب وإثمار..

ربي أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأكرمنا بحُسْن الخاتمة، يا الله!

 

(103)

حين نبتعد عمن نحب؛

فإن (الفراغ) الموجع فيما بعد،

يكشف بعض التفاصيل التي لم تكن ترى عن كثب..

في (البُعد) -على سوآته- جمال لا يستشعره المقتربون، وهنالك ينشط الخيال؛ فيملأ (الفراغ) بالجميل من الذكريات والحلو من الآمال..

 

(104)

يهيئ الله لنا من أولادنا فرصة النظر إلى تاريخ مضى من طفولتنا، لم تكن فيه وسائل التوثيق موجودة أصلا، فضلا عن أن تكون وافرة.

لعل أحد جوانب الحكمة في أن يتناسل الإنسان؛ هو أن يعاين، لحظة بلحظة، تاريخ طفولته.. تلك الطفولة التي لم تكشفها –إلى وقت قريب- وسائل التوثيق الموجودة حاليا. كل ما نراه من أخطاء أطفالنا في الكلام وعثرات ألسنتهم، وسلوكاتهم الخاطئة: المضحكة والمزعجة؛ هي صور من تاريخنا؛ فتأمل كيف كان صبر أمك عليك، وعمل أبيك في أن تعيش الحياة الناعمة؛ ثم كيف كبرت حتى استطعت قادرا على تمييز غث الأمور وسمينها..

 

(105)

في لحظة التكريم، اللحظة التي يُكافَأُ فيها الإنسانُ على جميل صنعه، اللحظة التي يُكافئ فيها الإنسانَ أحباؤه في احتفال مفاجئ تلقائي، اللحظة التي تُجَسِّد معنى الاعتراف بالجميل؛ في هذه اللحظة يكاد يُرْتَجُ على الإنسان فلا يعرف ما يقول وهو الفصيح المعرب، ويكاد يعمى من حيث أراد أن يكون بصره في هذه اللحظة بالذات حديدا، ويكاد يُصَمُّ فلا يسمع..

كأنما تأتي تلك اللحظة على حواسه كلها، فتختلط، وربما سمع من حيث أراد أن يبصر وتكلم من حيث أراد أن يسمع..

لحظات مؤثرة، وأكثر ما تؤثر في الأنقياء الأصفياء من الناس، الذين يفسحون لها المجال لتؤثر فيهم كما تشاء بسببٍ من طبيعتهم المسالمة. هنيئا لهم..

 

(106)

يقف القضاة على ثغر خطير من ثغور الوطن..

فإن هم أحسنوا السيرة والسريرة؛

فقد تستقيم بعملهم النُّظم الحاكمة في الدولة، وتترسخ بعلمهم أركان دولة القانون، وتصون أحكامهم الحاسمة أمن البلاد والعباد في جوانب شتى.

وإن هم أساءوا؛

فقد سعوا في الأرض ليفسدوا فيها ويهلكوا الحرث والنسل..

••

تحية لكل قاضٍ شريفٍ عادل!

 

(107)

تُعْجز الإنسان الفكرة أحيانا. تتأبى عليه. ترفض النزول من عليائها. تصرف وجهها عنه كأنما لم يكن يوما وعاء لأجمل وأعز وأنبل منها. يتوسل ويتسول، وكل ذلك لا يجدي نفعا معها..

يا مزاج الفكرة الصعب؛ متى تلين؟!

 

(108)

وجود نظام متين لصرف المال العام، يُؤَمِّنُ نفسه بنفسه: بأُطُرٍ واضحة، وإجراءات مُحكمة، ورقابة حرة؛ خير وأنجع (وأظنه: أحب إلى الله) من نظام ضعيف يتم التعويل فيه على (أمانة) الموظف وحده..

فإنه لا يُدرى: أيكون أمينا من يُنَصَّب لهذا الأمر، أم غير ذلك؛ كما لا يُدرى: أيظل الأمين على أمانته وهو يجد نفسه في بحر من المال غير مصون بنظام محكم، فإن ضعف النفس هو أول ما استقوت به الأيدي الممتدة إلى الأموال العامة، وقد صدق المثل الشعبي: "المال السايِب يعلم السرقة"!

 

(109)

تغيب بعض التفاصيل الحسنة، فتجدها الحواس الراضية في الظن الحسَن، وفي العذر الواجب، وفي المحبة الوافرة، وفي المصلحة المؤملة؛ وبهذا ترى العين وتسمع الأذن ويفقه القلب ما لم يكن له أثر ظاهر محسوس..

من هنا كان جواب بثينة - صاحبة جميل بن مَعْمَر -، على عبد الملك بن مروان، إذ قال لها: والله يا بثينة ما أرى فيك شيئاً مما كان يقول جميل؛ قالت: يا أمير المؤمنين، إنه كان يرنو إليَّ بعينين ليستا في رأسك!

والأمر بعكسه –تماما- لدى الحواس الساخطة، فهي تجد في عكس ما تقدم تفاصيلَ سيئة، وهي إذن كما قال الشاعر: فعين الرضا عن كل عيبٍ كليلةٌ - ولكن عين السخط تُبْدي المساويا!

 

(110)

سيجد الأحباب المتخاصمون

وسيلة للتراضي والائتلاف من جديد.

سيجدون ذلك حتما عما قريب،

فمن المغالطة في مفهوم المحبة ألا يكون هذا بعض مقتضاها، ومن العبث ألا يتخذ المحبون وسائل متجددة تحفظ ماء العلاقة في سخطها ورضاها.

 

الجمعة، 25 سبتمبر 2020

مشارق | (10)

 

(91)

يُتْبع الإنسانُ نفسَه هواها، ويمضي سادرا في غيه، غير عابئ بأنظمة أخلاقية ودينية وعرفية ورسمية تحكم الوسط الذي ينشط فيه، ولا يفتح لنفسه نافذة لمراجعة النفس وإصلاح ما هو عليه من الخطأ وإقامة نفسه على طريق صحيح معروف؛ كأنما خُلق عبثا، وتُرِك هَمَلا..

فإن استمر على ما هو فيه من التخبط والتيه؛ فإنه سيفاجأ -لا محالة- بنتائج مهولة لما يفعل، تأتي عليه من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب..

وإن صحا من غفلته؛ فربما يولد من جديد، وقد يولد الإنسان أكثر من مرة!!

 

(92)

لا ريب أن (التسول) حِرْفَةٌ تحتاج إلى مهارات عالية، فمن ثَمَّ لا يتحصَّل عليها أيُّ محتال. أرأيت كيف أن المتسول لا يَرِفُّ له جَفْن وهو يقابَل بالصدود والإنكار، ولا ينكسر له جناح وهو يسمع كلمة (لا) جوابا على سؤاله بـ (هل)، ولا يرتبك ولا يتلعثم وهو يقوم للناس عقب الصلاة في المسجد الممتلئ فيأتي بالأكاذيب طالبا من الناس المساعدة، مع علمه (أو توقعه على الأقل) أن في الناس من يرتاب فيه وأن فيهم من قد يكشف زيف ما يتقوَّلُ ويتصنَّع!

 

إن التسول داء عضال مزمن في نفس من يراه فرصة لكسب المال. لقد جف ماء وجوه المتسولين لكثرة ما أراقوه، وعميت عيونهم عن رؤية نظرات الاحتقار في عيون من سألوه، وصمت أسماعهم عن العتب والملامة والتقريع فكأن كل واحد منهم آلة خرساء أو دابة عجماء لم يلدها آدم ولا بنوه!!

 

(93)

عش لحظتك الراهنة: كاملة التفاصيل، تامة الأركان.

كن فيها بسمعك وبصرك وفؤادك، ولا تفكر كثيرا فيما سيأتي بعد..

وما يدريك،

فربما ما تخبطَّتَ فيه في لحظاتٍ ما؛ كان بسبب ما أنقصْتَه من العيش في لحظات سبقتها.

عش لحظتك الراهنة:

إن ذلك أدعى أن يَكْسِبَك حُسْن التأتي فيما وراءها..

 

(94)

بينما تكشف نار التجربة عن المعدن الأصيل لبعض الناس سريعا؛ فإنها تحتاج لوقت أطول حتى تكشف عن أصالة معدن غيرهم.

 

الناس مختلفون في مشاربهم وطبائعهم واستجاباتهم، وهم كالمحاليل لدى المختبريين، تختلف استجاباتها -في إطار فرضية التجربة- بحسب ما يُخْلط بها من محاليل الاختبار، فربما ظهرت نتيجة بعضها سريعا لأنها وافقت ما اختلط بها، وتأخرت نتيجة غيرها لأنها لم تختلط بعد بما يجانسها..

 

من المبكر جدا الحكم على الناس في بدايات التجارب. التكرار قرينة مهمة هنا، والصبر والحكمة أدعى للتي هي أقوم في النظر..

 

(95)

الصفات أو العادات التي طالما رأيت نفسك عَصِيّاً على التطبع بها أو المداومة عليها؛ لن تستقيم فيك بمجرد أمنيات حالمة أو نوايا مؤجلة، ولن تنهض مرة واحدة بمجرد قرار سريع مفاجئ..

إنها بنيان مرصوص: يقوم لَبِنةً لَبِنَة. وإذن؛ فإن عليك التحلي بزينتين:

قرار حازم: لتأخذ الخطوة الأولى باتجاه التغيير.

واصطبار عازم: في الانتباه لتصرفاتك في مواقف وتفاصيل صغيرة، بما يجعلك قادرا على توجيهها الوجهة التي تبني في نفسك الصفة أو العادة التي تريد.

 

(96)

العلو/ الوفرة/ البساطة/ الوضوح/ الحرية/ المحبة/ الإحسان.. وغيرها كثير؛ رموز إيجابية عالية تشتمل عليها (الطبيعة الجميلة)..

إنها رسول ورسالة من الله، لنتذكر ما ينبغي أن نكون عليه من عاطر السيرة وطاهر السريرة، وإيجابي المشاعر ومحكم الأفكار..

 

(97)

تضيق بالإنسان أحوال، وتشتد عليه أمور، حتى ليظن أنها النهاية التي ستأتي على أوله وآخره؛ ثم يكتب الله له الفرج مما هو فيه من حيث يحتسب أو لم يحتسب..

كان الله يمتحن سمعه وبصره وفؤاده..

أراد أن يكابد عبده المشقة فيشكره على الراحة، وأن يعرف قدر نعمته عليه فيتحدث بها بين سائر الخلق، وأن يكون في كل سرائه وضرائه متصلا به وحده، مؤمنا موقنا -مهما ارتبطت الأسباب بالخلق من حوله- أن الله بيده كل شيء، واحد لا شريك له..

 

(98)

لأمر ما قال الله جل جلاله في كتابه، وعظا للأبناء أن يَبَرُّوا والدِيهم: "ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما"؛ فإن الشيخ قد يضيق بما يفرح به الشاب من بريئ المباهج، ويُخَطِّئ غيره دون منطق واضح مستقيم، وينفذ خبراته وتجاربه القديمة في واقع مغاير قد لا يحتملها، وربما أحب أن يرى نفسه طفلا في عيون أبنائه فأتى بالعجائب..

 

وإن هذا كله مدعاة لتذكير الأبناء أن يكونوا أبصر، وأحكم، وأصبر..

 

اللهم وفقنا لبر آبائنا، وأن نقول لهما -في كل أحوالهما- قولا كريما!

 

(99)

إصلاح (النومات الصغرى)؛ ربما يكون هو أول ما تحتاجه في سعيك لإصلاح (النومة الكبرى). فكر دائما وأبدا فيما يُقيمك من هذه الأخيرة قيامةً سعيدة، وانتبه لما قد يصرفك عن ذلك من صغائر الأمور هنا وهناك، فكم يُلْهي الصغير عن الكبير.

 

(100)

أؤلئك الذين يرحلون رحلتهم الأخيرة، في صمت وهدوء؛ يتركون في قلوب أحبائهم آلاما صامتة، لا ريب أنها ستتكلم فيما بعد. كان الموت يطوف عليهم ليل نهار، وحين أكمل دورته المقدرة استلمهم بهدوء، دون أن يشعر به أو بهم أحد. إن في ذلك لعبرة، وكفى بـ (الموت) و(الحياة) واعظيْن لقوم يتفكرون..

 

الأحد، 13 سبتمبر 2020

مشارق | (9)

 

(81)

ثمة صوت جميل يتسرب إلى روحك بين الحين والآخر. ينتشلك من حاضرك المتعب/ المرتبك/ المختلط إلى ماضٍ جميل، أو يطير بك إلى مستقبل يملأه الخيال بما تحب وتشتهي..

كنت تحسبه بعيد المصدر، أليس كذلك؟

كنت ترفع رأسك متطلعا تبحث عنه.. فاعلم إذن أنه كان أقرب إليك مما تتصور. لقد كان بين يديك، يقول لك، مُعْرِبا غير مُعْجم: أنا هنا!..

كان بين أذنيك، ولكن أَصَمَّتْك عنه أو استغفلتْك فكرة نَزِقة تجعل البعيد في مرتبة أعلى من القريب، وتستوفي له المعروف الذي كان أولى به الأقربون!

فارجع السمع كرتين، يرحمك الله..

 

(82)

لا تنطبق المعادلات الرياضية ولا المسائل المنطقية على كل ما يأتيه الناس ويذرون من شؤون حياتهم، فليس يصح -أغلب الأحيان، إن لم يكن دائما- ما تؤدي إليه تلك النُّظم العقلية الصارمة.

ثمة نظام مختلف في الاجتماع البشري، لا تسير فيه المعطيات والنتائج على وفق تلك النظم، فليست تؤدي للنتائج نفسها (دائما)؛ المدخلاتُ المتماثلة في الظاهر.

إننا نكون أدنى إلى (الإنسانية الطبيعية) كلما وسعنا قبول الآراء المتعددة فيما يسعه الخلاف، وأغضينا عن خطأ لا يقدم إصلاحه ولا يؤخر، وأصبرنا أنفسنا عن العجلة في تنبيه من يخطئ الخطأ اللازم الإصلاح إلى حالٍ أرجى أن يقبل فيه النصيحة والتعليم..

وعكس ما تقدم صحيح؛ فحذار من (إنسانية آلية) لا تستجيب إلا لصرامة القوانين الرياضية، ولم يقدر بعد صانعوها على ما طُبع عليه الإنسان من المرونة الحيوية وإمكانية التقدير لنسبية المواقف والأحوال.

 

(83)

في الطريق إلى هدفك المشروع؛ تذكر أنك لست الهدف الذي تسعى من أجله. أنت شيء، وهدفك شيء آخر/ كينونتان مختلفتان تماما. معادلة ستحميك حين الإخفاق -لا قدر الله-..

 

وإذن؛ فكن طموحا، وتوكل على الله. خطط، ونفذ، وتلمس أسباب النجاح؛ فإن حالفك التوفيق فقد نلت ما تريد، وإن كانت الأخرى فقد ربحت خبرة لا يستهان بها.. ورَبُّ التجربة والخبرة لا يُلْدغ من جُحر مرتين!

 

(84)

يختلف الناس في معالجة ما تتلقاه آذانهم.

- يختلفون في تقييمه: أَكِتْمانه أولى، أم إذاعته؟

فإن كانت الأولى: أهو شيء ينفع، أم أنه زائد على الحاجة؟

- ويختلفون في نقله، إن كانت الثانية: لمن، ومتى، وكيف؟ فليس يوفق إلى الإحسان فيها كل الناس..

فعليك، والحال هذه؛ أن تنتبه كثيرا لما ينطق به لسانك؛ فلست تأمن بعد أن ينقل عنك ما لم تقله، أو أن يُنْتَبَهَ كثيرا لما تعده من الحواشي بينما يعده الناس من المتون.. فلله في خلقه شؤون!

 

(85)

"في كل إنسانٍ تعرفه؛ إنسانٌ آخر لا تعرفه".

يخرج هذا الإنسان المجهول بالنسبة إليك، ضمن ظروف وأحوال مختلفات.

وفي التفاصيل، قبل لقائك به بقليل أو كثير؛ ثمة أشياء كانت تمور داخل نفسه أو تثور خارجها، بعضها جديد وبعضها مرت عليه الأيام ولكن طرأ ما يذكر به.. أشياء تغير مزاجه إلى حسن أو إلى سيئ، تهز كيانه بعنف فتخرجه خلقا آخر، أو تهزه بلطف فيبدو شيءٌ ما فيه على غير العادة..

هنالك، في لحظة اللقاء المفاجئة أو حتى بعدها بقليل أو كثير؛ قد تغفل فتعجب كيف يتغير الإنسان فجأة، وقد تنتبه فتعرف أننا كلنا هذا الإنسان!

 

(86)

تسندك (الفكرة)؛

لتخطو الخطوة الأولى في وسط ساكن، أو تبصر ما لم يره غيرك أو أبعد مما يرون، أو تتكلم بلغة جديدة غير معهودة يسمعها الناس كلهم/ لا فرق بين ذي سمع وذي صمم..

الفكرة يد وعين ولسان.

الفكرة شيء محسوس وإن بدت مجردة،

وهي (كَمٌّ) بقدر ما هي (كيف).. الفكرة عَالمٌ وأيُّ عالَم!

 

(87)

حين يصفو وجه الحبيب؛ يصفو وجه الحياة.

أليست الحياة، في أحد تجلياتها الجميلة؛ هي مَنْ نحبهم؟!..

بلى، وهي ذلك الشعور الساحر الذي يخالطنا كلما لقيناهم بعد افتراق، وهي شعورنا بأن اللحظة الأجمل هي لحظةَ نتقن فيها صناعة أسباب سعادتهم، وهي أدعيتنا الصادقة ونوايانا الطاهرة وسعينا الدؤوب في أن تجمعنا بهم جنة الدنيا والآخرة..

الحبيب أيقونة الحياة،

وبه تتعلق، أو تتصل (على الأقل)؛ فاعليات الإنسان في أكثر من جانب.

 

(88)

حفظت لنا كتب التاريخ والأدب مقولات ملهمة. ربما كانت تبدو في زمانها غير ذات قيمة، أو كانت من المعتاد الذي يمر على سمع الناس فلا يلفت ولا يثير، ولا يُتَصَوَّرُ -في أحسن أحواله- أن يتجاوز حدود الزمان والمكان. ولولا عبقرية من انتبه لها فرواها، وشَغَفُ من اهتم بها فأثبتها في الكتب؛ لضاعت، فحُرِمْنا بذلك مما يمكن أن نستدل به على واقع اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي أو غيرها من الشؤون التي يعدها الباحثون شواهد وقرائن مهمة في استقراء تفاصيل جرت في زمان سابق.. جزى الله عنا خيرا حَمَلَةَ التاريخ والأدب.

 

(89)

على مؤسسات التربية والتعليم أن تكون حازمة في ألا يعمل فيها إلا الأكْفَاء المخلصون. أؤلئك مؤتمنون على مقدرات الوطن ممثلةً في أفكار أجياله التي ستبنيه. فإن الكفء المخلص؛ كما يسوق المادة العلمية القَيِّمة، يبني في طلابه من القيم ما يُحِبُّ أن يراه في بنيه وخاصته؛ وكما يُحْسِن الإفتاء فيما يُشْكل من شؤونِ تعليمه، يُحْسِن النصح الصادق فيما يراه مُحْرِجا من الأخلاق.

وإن الجيل الذي يخرج على يدي مثل هذا؛ جيل -لا ريب- يستشعر مسؤوليته تجاه وطنه، عن زادٍ متين: قيمٍ دينية وإنسانية فضلى، ومعرفة علمية وعملية راسخة. جيل جدير بأن يعول عليه، ويوكل إليه، وإنه لخليق بأن يكون الخير -بإذن الله- على يديه..

 

(90)

في أبنائنا مظاهر من حياتنا التي تطورت ونضجت عبر مراحل العمر المختلفة.  نستطيع أن نرى شيئا مما كنا عليه فيما يصدر عنهم من سلوكات لطيفة أو مزعجة، وأن نتبين بعض تاريخنا اللفظي أو الصوتي في جرس أصواتهم وطرائق نطقهم، وأن نستقرئ في تغير أشكالهم واختلاف ما يقوله الأقارب والأباعد من عقد المشابهات بينهم وبين الوالدين أو عموم أهليهم؛ نستقرئ في كل هذا خارطة التغيرات التي عبرت من خلالها مظاهرنا الحالية..

إنهم يديرون شريط ذكرياتنا التي لم توثق بأحسن مما يوثق اليوم وغدا!

- هنيئا لنا بهم..