الأحد، 20 أكتوبر 2013

الصحراء.. دواءٌ إذا تصحَّرت القيم !

حين تدخل إلى بعض المستشفيات، لا سيما في أوقات الزيارة المعتادة، تلحظ مجموعة من البشر، يتخذون من زاوية ما على أحد جوانب مواقف السيارات مجلسا لهم، يفرشون عليه البسط، ويتناولون فيه القهوة والتمر، وربما جلبوا إليه بعض الفواكه، كأنهم في سبلة. وإذا اتفق أن كان هذا المكان تحت شجرة ظليلة، فإنهم يلبثون فيه ليل نهار.. !

إنهم أهلنا من البدو، جاءوا لعيادة مريض لهم في المستشفى، ومؤازرة خاصة أهله الذين يشرفون عليه وقت الزيارة، بعضهم أو كلهم، زرافات أو وحدانا.
كنت أجد في هذا المنظر جانبا من التخلف وبقيةً مما استعصى على المدنية الحديثة، متمنيا أن يزول بمرور الأيام، رغم تعاطفي الإنساني معهم، فما حاجة المريض إلى مرافقين بهذا العدد كأن مريضهم يعالج في مكان منقطع أو بعيد لا يوصل إليه بسهولة، وهل يجد هؤلاء من الفراغ ما يدفعهم إلى ترك أعمالهم وشؤونهم حتى يأتوا لقضاء الأيام والليالي في مثل هذا المكان، فهم فيه كأنهم لاجئون!

ولكن مع الأيام صرفني عن هذا التفكير، التنبه إلى أن هؤلاء علمتهم الحياة أبلغ ما يكون التعليم أن الاتحاد قوة، وأن الحمل يخف بين الجماعة، وأنهم جسد واحد يرفع العضو الصحيح منه عزيمة السقيم.. إنهم باختصار يبعثون برسالة إلى أنفسهم أولا ، ثم للمريض ، وللناس أجمعين..

فرسالتهم للذات أن الوفاء من شيم الكرام، وهم بوقفتهم هذه إنما يؤدون ما تحملتهم رقابهم من جمائل أسرة المريض يوم أن وقفت معهم في الشدائد.
ورسالتهم للمريض وأهله، أن لكم في كل بيت من بيوتنا أبا وأما وإخوة، يهتمون لأمركم ويرعون شؤونكم، وهم على استعداد تام للوقوف معكم بالحال والمال (بحسب التعبير الدارج).

ورسالتهم للناس، أن إحساس المريض بأن له أهلا يرعونه، وينتظرون لحظة خروجه سليما معافى؛ هو عنصر فاعل في العلاج. فعواطف أهله النبيلة ومشاعر محبيه الخيرة تصله وهو على فراشه وإن لم يرهم ويتشارك الجلوس معهم، وتنشط فيه عناصر العافية، وأكثر الظن أنه لن يلبث في مكانه من المستشفى إلا قليلا.


إن المدنية الحديثة –على إيجابياتها الكثيرة- فإنها حجّمت من فاعلية مجموعة من القيم، وضيقت عليها الخناق، لأسباب في البنى المدنية ذاتها أحيانا، وأحيانا أخرى لأسباب في البشر الذين تفاعلوا معها بغير هدى ولا كتاب منير، أما الصحراء فإنها فتحت الباب واسعا في هذا الجانب، ومازال كل من وطئها يشعر أنه يقرأ في كتاب مفتوح يعرض لمجموعة لا حدود لها من القيم الإنسانية العظيمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق