(1)
كان
المشرف على الرحلة الطلابية يقول لنادل المطعم: "هات طبق كذا لهذه الطاولة"،
" أحضر هنا كأسي عصير"، "ضع هناك أطباقا مختلفة". وكان النادل
يُدَوِّنُ صامتا ما يقوله المشرف. ما إن انتهى صاحبنا من طلباته، حتى قال له النادل
بلغة حاسمة حازمة: "في هذا البلد؛ يجب (أو ينبغي) أن تقول (لو سمحت) قبل أن تطلب
أي شيء!!"..
فوجئ
مشرف رحلتنا إلى بريطانيا بكلام النادل، وأخذ يعتذر بكلمات من هنا وهناك، فيما لم ينتظر النادل كثيرا لسماع معلقة الاعتذار
المرتبكة، وإنما أخذ طريقه -واثقا من نفسه- إلى بطن المطعم لإحضار المطلوب.
حدث
هذا الموقف قبل نحو 15 سنة تقريبا، ولم أكن أتذكره إلا في المناسبات المتباعدة، ولكن
كتاب (كِخَّه يا بابا) الذي وقع بين يديَّ قبل أيام خلت؛ ذكرني به. يضم هذا الكتاب،
الذي يقع في حوالي 120 صفحة من القطع المتوسط؛ بين دفتيه عددا من المقالات، نشرها مؤلفه
د.عبدالله المغلوث -خلال فترات متفرقة- في الصحف السعودية؛ منتقدا فيها بعض الظواهر
الاجتماعية في مجتمعه. يقول المغلوث في مقدمة كتابه، موضحا سبب التسمية اللطيفة للكتاب:
"إن أبرز مشاكلنا السلوكية والاجتماعية تبدأ في مجتمعاتنا مبكرا، مبكرا جدا..
فنحن نستقبل أطفالنا بعبارات: "كخه يا بابا"، و"أح يا ماما"، و"عيب"
حتى ينبت الشعر في شواربهم. هذه العبارات التي ترافق أطفالنا سنوات طويلة جعلت الكثيرين
منهم لا يجيدون الحديث وارتكاب الأسئلة. تبدو جملهم ناقصة وكأن أرتالا من الفئران الشرهة
انقضت عليها بأسنانها الحادة. في حين تبدو جمل الأطفال الآخرين أكثر دهشة وانشراحا".
في
الواقع؛ ما يتعرض له (المغلوث) في كتابه يتشابه –في قليل أو كثير- مع ظواهر أو
عادات اجتماعية توجد في أغلب المجتمعات العربية، إن لم يكن كلها. ففي مثل الموقف الذي
ذكرته أعلاه؛ يقول المغلوث: "لا أنسى الإحراجات التي تعرضت لها في بداية انتقالي
للدراسة في أمريكا. كان النادل والسائق والمعلم والسباك يتعاملون معي كطفل، فكلما أسدوا
لي خدمة أو طلبت منهم شيئا ونسيت أن ابتسم وأن أشكرهم كما ينبغي رددوا على مسامعي العبارة
الشهيرة: ماذا عن الكلمات السحرية (وات أباوت ذا ماجيك ووردز)؟.. ويقصدون بها: شكرا،
أنا ممتن، من فضلك، أرجوك وغيرها. هذه الكلمات لم تدخل قاموسنا إلا مؤخراً، لم تدخل
إلا بعد أن بلغنا من العمر عتيا، وأرسينا قواعد هشة لعلاقاتنا مع الآخرين".
(2)
في
موضع آخر من الكتاب، تذكرت رجلا كبيرا في السن، كنت أراه في صلاة الجمعة. في كل مرة
كان يلبس كمة جديدة وثيابا تناسب لون الكمة. شاب شَعْر الرجل وبَشَرُه، فكان يحتال
على بياض الشعر وتَفَرُّقِه بصبغه وإطالته وتسريحه؛ بحيث يغطي جزءا لا بأس به من قفاه،
أما تَغَضُّن بشرته فلم يكن له من حيلة فيه إلا أن يتهندم على نحو ما يفعل الفتيان،
بحيث يشعر من يراه أنه أمام شاب لم يبلغ الثلاثين بعد أو لم يجاوزها على الأقل. لم
يكن الرجل العجوز متطرفا في لباسه إلى حد السفه والتصابي، ولكني أعترف بأنه كان يخطر
في بالي -حين رؤيته- تساؤلات عابرة لا تخلو من استنكار من مثل: (ما الداعي لمثل هذا؟)
أو (ما ضَرَّه لو عاش عمره كما هو؟)..
تلك
الخواطر كانت تصول وتجول في البال -بلا وعي مني-؛ كأن على كبار السن أن يضعوا رجلا
واحدة في القبر من الآن، فيما يكتفون برجل واحدة فقط يمشون بها في دروب الحياة. كأنْ
ليس من حقهم إلا أن يعيشوا نصف الحياة فحسب. تذكرت هذا الرجل حين قرأت مقال (لماذا
نموت قبل الموت) وفيه يقول المغلوث: "في الغرب عندما يتقدم الإنسان في السن تظهر
عليه ملامح الرفاه والارتياح، فقد تحرر من الكثير من الالتزامات وتفرغ لهواياته وسعادته.
في المقابل، يذوي إنساننا عندما يكبر"، ثم يحكي عن رجل أعمال عجوز، فيقول:
"يعترف رجل الأعمال السنغافوري الناجح تشو باو (83 عاما) أنه لا ينام سوى أربع
ساعات يوميا. يقول: "لا أود أن أهدر يومي في الفراش". يقضي تشو جل يومه في
المكتب أو مع أبنائه. يلعب معهم كرة السلة أو يطهو لهم. يرى السنغافوري أن الموت يهرب
منه كلما وجده سعيدا. يقول في مذكراته التي صدرت العام الماضي: "أنا لا أخاف من
الموت. سيحملني يوما ما.. عاجلا أم آجلا، لكن لماذا أناديه قبل أوانه؟". وفي المقال
نفسه يورد الكاتب كلمات الفيلسوف الإنجليزي، فرنسيس بايكون: "الشيخوخة في الروح
وليست في الجسد".
(3)
سيجد
من يطلع على الكتاب، الذي أصدرته دار مدارك ببيروت؛ عرضا لمواقف كثيرة، لا شك أن له
علاقة بمواقف شبيهة بها، ومن ذلك (مثلا) أنني تذكرت ما حكاه لي أحد أصدقائي من
ذكريات طفولته، حيث كان ذات يوم مع أبيه في المجلس العام للقرية، وحين قام مع غيره
من الصغار لصب القهوة للكبار، تقدم باتجاه أبيه، فصب له في الفنجان قدرا أكبر من الحد
المعتاد، فما كان من الأب إلا أن نهره بصوت عال ملأ أسماع الحاضرين، وربما مرطه دلة
القهوة مالئا سمعه بكلمات التقريع، وقائلا له: "ما هكذا تصب القهوة، اذهب واجلس
مع أمك في البيت حتى تتعلم عادات الرجال.. هيا قم من هنا واذهب للبيت". لم يتمالك
الصغير نفسه، فأجهش بالبكاء، وانطلق راكضا بدموعه إلى أمه في البيت بعد أن ذهب لمجلس
الرجال وهو منفرج الأسارير. يحدث كثيرا أننا نريد لأولادنا أن يتعودوا العادات الحميدة،
ويتطبعوا بطباع خيرة الناس في المجتمع، ويقتفوا خيِّر السلوك؛ ولكننا نخطئ الوسيلة
لذلك. نسيئ إليهم من حيث نريد الإحسان. ولك أن تتخيل كيف يَشِبُّ طفل تتناوله يد تدمن
إمساك العصا، وتتحدث إليه لسان مطبوعة على الصراخ، وتنفتح عليه -في كل صغيرة وكبيرة-
عين محمرة كالجمر. يحكي الكاتب في مثل هذا السياق هذه القصة: "على ضفاف الكورنيش
شاهدت سيدة تسحب ابنها من أذنه حتى تكاد تقطعها وتقول له وهو يهطل دموعا: قف ولا تتحرك
حتى أنتهي من تصويرك. الطفل لم يذعن لطلبها، كان يضع يديه على وجهه. اضطرت أمه للاستعانة
بزوجها. جاء يهرع من الخلف حاملا يده الضخمة التي تشبه المطرقة. صفعه بها بقوة حتى
أخمد بكاءه وأشعل ألمنا. استرجعت هذا الموقف عندما شاهدت أبا يأمر أبناءه بالابتسام
أمام أحد الفنادق لالتقاط صورة جماعية لهم. وقد كانت المفاجأة عندما قال لأحد الصغار
وهو يهم بضغط زر الكاميرا: ابتسم يا حمار!".. يقول المغلوث: " أي صورة تلك
التي سنحظى بها وسنودعها ألبومنا وذاكرتنا. أي ابتسامة هذه التي ستولد من رحم القمع
والشتائم. من المخجل حقا أن يصورنا آباؤنا عنوة. أن يطعمونا عنوة. أن يدخلونا إلى مدارسنا
عنوة. إن نتائج هذا التعسف مؤسفة. مؤسفة جدا. سننبت متجهمين، غير مقبلين على الحياة
والمستقبل."
(4)
أعجبني
أسلوب د.عبدالله المغلوث في كتابه اللطيف هذا، وقد كنت معجبا من قبل بكتاباته التي كانت تُتداول -بين حين وآخر-
في رسائل الواتساب؛ فمن ثَمَّ أدعوكم لمطالعة الكتاب، الذي تتوفر منه –لمن شاء- نسخة
إلكترونية على شبكة المعلومات. وفي معرض مسقط الدولي للكتاب، قبل عامين تقريبا؛ وجدت
ركنا لمجموعة طلابية تطوعية تبيع نسخا صوتية لعدد من الكتب، وكان من بينها كتاب
(كخه يا بابا)، ولكنها -للأسف الشديد- تنقصها المراجعة اللغوية والأدائية.
وأيّاً كانت النسخة التي ستطالعونها؛ فإنكم ستجدون في الكتاب كمّاً كبيرا من الحكايات
الملهمة والدالة، صاغها المؤلف بلغة سهلة بسيطة تتدفق بسلاسة، وأجزم أن قارئها لن يشعر
بالسآمة أو الملل.